img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

بركة‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان


حين‭ ‬جلسنا‭ ‬معه‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى،‭ ‬شعرنا‭ ‬اننا‭ ‬نعرف‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬منذ‭ ‬زمن،‭ ‬لقد‭ ‬شعرنا‭ ‬بارتياح‭ ‬عجيب‭. ‬من‭ ‬عادة‭ ‬اللقاءات‭ ‬الأولى‭ ‬أن‭ ‬تكثر‭ ‬فيها‭ ‬المجاملات،‭ ‬ويرتبك‭ ‬الأشخاص‭ ‬عادة‭ ‬ويحذرون،‭ ‬لعدم‭ ‬معرفتهم‭ ‬بطبيعة‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬يجالسونه،‭ ‬وخوفا‭ ‬من‭ ‬خطأ‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬خاصة‭ ‬حين‭ ‬تكون‭ ‬الشخصية‭ ‬موفدة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬السيد‭ ‬القائد،‭ ‬وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭. ‬لكننا‭ ‬مع‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نشعر‭ ‬بذلك،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬منذ‭ ‬اللقاء‭ ‬الاول‭ ‬حلو‭ ‬الحديث،‭ ‬سهل‭ ‬المعشر،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬طريقة‭ ‬كلامه‭ ‬السلسلة،‭ ‬تلك‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تدفعنا‭ ‬للكلام‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬نشعر‭ ‬بحرج‭. ‬ومع‭ ‬الوقت‭ ‬اصبحت‭ ‬العلاقة‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬وفي‭ ‬خارج‭ ‬العمل‭ ‬ايضاً،‭ ‬علاقة‭ ‬وديّة‭ ‬صافية،‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العطاء‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتميز‭ ‬به،‭ ‬فهو‭ ‬يعطي‭ ‬من‭ ‬قلبه،‭ ‬ويحب‭ ‬المخلصين،‭ ‬لأنه‭ ‬هو‭ ‬الأكثر‭ ‬اخلاصاً‭.‬
أكثر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يشد‭ ‬انتباهي‭ ‬ويجعلني‭ ‬أتعلق‭ ‬به‭ ‬هو‭ ‬تدينه،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬الشهيد‭ ‬حسام‭ ‬يتمتع‭ ‬بروحانية‭ ‬عالية‭ ‬وعظيمة‭ ‬جداً،‭ ‬علاقته‭ ‬بالله (‬عزّ‭ ‬وجل) ‬تختلف‭ ‬اختلافاً‭ ‬كبيراً‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬علاقة‭ ‬أعرفها،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬يجعله‭ ‬تقرباً‭ ‬خالصاً‭ ‬لوجه‭ ‬الله،‭ ‬وكأن‭ ‬عمره‭ ‬كله‭ ‬عبادة،‭ ‬حتى‭ ‬أنفاسه،‭ ‬فهو‭ ‬يقيس‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬بميزان‭ ‬غضب‭ ‬الله‭ ‬ورضاه،‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬يفرح‭ ‬بالتعب،‭ ‬لا‭ ‬يبالي‭ ‬بالإرهاق‭ ‬الجسدي،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬العمل‭ ‬يعمل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الجميع،‭ ‬مخلصاً،‭ ‬عفيفاً،‭ ‬يخاف‭ ‬الظلم،‭ ‬كريماً،‭ ‬خدوماً،‭ ‬محباً،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يتقرب‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬ويرجو‭ ‬رضاه،‭ ‬ويشتد‭ ‬اقتراباً‭ ‬في‭ ‬العبادة‭. ‬كنت‭ ‬اقف‭ ‬مذهولا‭ ‬أمام‭ ‬طريقته‭ ‬في‭ ‬العبادة،‭ ‬فهو‭ ‬يعبد‭ ‬الله‭ ‬كما‭ ‬يعبد‭ ‬العاصي‭ ‬التائب،‭ ‬كنت‭ ‬اسمعه‭ ‬وهو‭ ‬يرجو‭ ‬ويتوسل‭ ‬ويبكي‭. ‬
أما‭ ‬الصلاة،‭ ‬فكان‭ ‬لها‭ ‬مقامها‭ ‬العظيم‭ ‬عنده،‭ ‬حين‭ ‬يحل‭ ‬موعدها‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬العمل،‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬مهماً،‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬يكون،‭ ‬يذهب‭ ‬فوراً‭ ‬لأدائها،‭ ‬كان‭ ‬يصلي‭ ‬بصوت‭ ‬حنون‭ ‬جداً،‭ ‬وبخشوع‭ ‬لم‭ ‬أشاهد‭ ‬مثله،‭ ‬وبآيات‭ ‬وأدعية‭ ‬مطولة،‭ ‬وبصوت‭ ‬مرتفع‭ ‬ملؤه‭ ‬الخشوع‭ ‬والرجاء،‭ ‬لا‭ ‬يبالي‭ ‬بمن‭ ‬حوله،‭ ‬إذا‭ ‬صلى‭ ‬انقطع‭ ‬عن‭ ‬الدنيا‭. ‬
كان‭ ‬يهتم‭ ‬بزمن‭ ‬الصلاة‭ ‬ومكانها‭: ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬لا‭ ‬يتأخر‭ ‬عن‭ ‬وقت‭ ‬الصلاة،‭ ‬ولا‭ ‬دقيقة‭ ‬واحده،‭ ‬وتحت‭ ‬كل‭ ‬الظروف،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يستعد‭ ‬لها‭ ‬قبل‭ ‬وقتها،‭ ‬وأما‭ ‬المكان‭ ‬فيحاول‭ ‬ما‭ ‬استطاع‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الاماكن‭ ‬الافضل‭ ‬للقربى،‭ ‬كان‭ ‬يرغب‭ ‬دائماً‭ ‬بأدائها‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬المباركة،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تعرَّف‭ ‬على‭ ‬المقامات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دليل‭ ‬السائح‭ ‬الديني،‭ ‬فهو‭ ‬يعرف‭ ‬مقامات‭ ‬في‭ ‬بعلبك‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نحن‭ ‬أهل‭ ‬البقاع‭ ‬نعرفها،‭ ‬مثل‭ ‬مقام‭ ‬السيدة‭ ‬صفية(ع)‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭.‬
يحب‭ ‬كثيراً‭ ‬صلاة‭ ‬الجماعة،‭ ‬ويسعى‭ ‬إليها‭ ‬سعياً‭ ‬حثيثاً،‭ ‬مشجعاً،‭ ‬وجامعاً‭ ‬للناس،‭ ‬وبعد‭ ‬فريضة‭ ‬الصلاة،‭ ‬ونوافلها،‭ ‬يقرأ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وتعلقه‭ ‬بالقرآن‭ ‬ملفت،‭ ‬فهو‭ ‬معه‭ ‬اينما‭ ‬كان،‭ ‬وكنت‭ ‬أراه‭ ‬يستغل‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬متوفر‭ ‬ليقرأ‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬الله،‭ ‬ويحثنا‭ ‬على‭ ‬قراءته‭ ‬ولو‭ ‬بعدد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الآيات‭. ‬
علاقته‭ ‬بأهل‭ ‬البيت‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬عادية،‭ ‬فهو‭ ‬أكثر‭ ‬رجل‭ ‬عرفته‭ ‬ذاكراً‭ ‬لهم،‭ ‬يربط‭ ‬كلَّ‭ ‬شيء‭ ‬بهم،‭ ‬وكأنهم‭ ‬لا‭ ‬يغيبون‭ ‬عن‭ ‬باله‭ ‬أبداً،‭ ‬رأيت‭ ‬بنفسي‭ ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬أثناء‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬مقام‭ ‬الإمام‭ ‬الرضا(ع)،‭ ‬يجلس‭ ‬قرب‭ ‬مرقده‭ ‬الشريف،‭ ‬ويبكي‭ ‬بكاء‭ ‬العاشق‭ ‬المحب‭. ‬عنده‭ ‬عشق‭ ‬لامحدود‭ ‬لأهل‭ ‬البيتR‭. ‬ولكربلاء‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬مكانة‭ ‬كبيرة‭ ‬جدا‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬ووجدانه،‭ ‬كأن‭ ‬تفكير‭ ‬وروح‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬متعلقان‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬كربلاء‭. ‬يذهب‭ ‬كل‭ ‬سنة‭ ‬لزيارة‭ ‬العراق‭ ‬وللحج‭ ‬وإلى‭ ‬إيران‭.. ‬وتنهمر‭ ‬دموعه‭ ‬سخية‭ ‬تجري‭ ‬على‭ ‬خديه‭ ‬كلما‭ ‬ذُكروا‭ ‬على‭ ‬مسامعه‭...‬
كان‭ ‬الشهيد‭ ‬حسام‭ ‬يرهق‭ ‬نفسه‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يقضي‭ ‬الليل‭ ‬بطوله‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأيام‭ ‬يتأخر‭ ‬عن‭ ‬أداء‭ ‬فريضة‭ ‬الصبح‭ ‬في‭ ‬وقتها،‭ ‬اذ‭ ‬يغلبه‭ ‬النعاس‭ ‬وشدة‭ ‬التعب،‭ ‬فيتأسف‭ ‬لذلك‭ ‬أسفاً‭ ‬مريراً،‭ ‬ويمارس‭ ‬عقاباً‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬بأن‭ ‬يصوم‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬يُشعر‭ ‬أحداً‭ ‬انه‭ ‬صائم،‭ ‬فكان‭ ‬إذا‭ ‬قدّم‭ ‬له‭ ‬أحدهم‭ ‬ضيافة‭ ‬لا‭ ‬يرفضها،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يحرجه،‭ ‬يضعها‭ ‬في‭ ‬جيبه،‭ ‬لتكون‭ ‬اللقمة‭ ‬التي‭ ‬يفطر‭ ‬عليها،‭ ‬ليزيد‭ ‬من‭ ‬ثواب‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬استضافه‭.‬