img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

عوائل‭ ‬الشهداء


من‭ ‬الامور‭ ‬الغريبة‭ ‬والملفتة‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬هو‭ ‬أثر‭ ‬الشهداء‭ ‬عنده،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أمراً‭ ‬عاديا‭ ‬أبداً،‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالمهندس‭ ‬حسام‭ ‬لاحظ‭ ‬ذلك،‭ ‬وكان‭ ‬يظهر‭ ‬ذلك‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بعوائل‭ ‬الشهداء،‭ ‬يسأل‭ ‬عنهم‭ ‬كمن‭ ‬يسأل‭ ‬عن‭ ‬أهله‭ ‬وذويه،‭ ‬ويبحث‭ ‬عنهم‭ ‬كما‭ ‬يبحث‭ ‬الجائع‭ ‬عن‭ ‬طعامه،‭ ‬وحين‭ ‬يلتقيهم،‭ ‬أو‭ ‬يزورهم،‭ ‬يبدي‭ ‬احتراما‭ ‬يفوق‭ ‬الوصف،‭ ‬يتواضع‭ ‬أمامهم‭ ‬بشده،‭ ‬فكلنا‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬علاقة‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬مع‭ ‬عوائل‭ ‬الشهداء،‭ ‬ومدى‭ ‬اهتمامه‭ ‬بهم،‭ ‬فمنذ‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬لبنان‭ ‬ظهر‭ ‬هذا‭ ‬فيه،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يزور‭ ‬أضرحة‭ ‬الشهداء‭ ‬ويسعى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬صديقا‭ ‬وفياً‭ ‬لتلك‭ ‬العوائل،‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العائلات‭. ‬جعلني‭ ‬هذا‭ ‬أفخر‭ ‬بأنني‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬تلك‭ ‬العوائل،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أخبره‭ ‬بذلك‭. ‬
في‭ ‬إطار‭ ‬العلاقة‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬ربطتني‭ ‬مع‭ ‬المهندس‭ ‬حسام،‭ ‬أكبرت‭ ‬فيه‭ ‬هذا،‭ ‬واحببته‭ ‬منه،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬رغم‭ ‬معرفتي‭ ‬بمحبته‭ ‬وتقديره‭ ‬لعوائل‭ ‬الشهداء‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬ذكرت‭ ‬أنني‭ ‬أخ‭ ‬لشهيد‭ ‬سقط‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬تموز‭. ‬ربما‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أنال‭ ‬احترامه‭ ‬لشخصي،‭ ‬لكوني‭ ‬أنا،‭ ‬أو‭ ‬لأنني‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أسبب‭ ‬له‭ ‬أي‭ ‬إحراج،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬مكاني‭ ‬عنده‭ ‬بما‭ ‬استحقه‭ ‬أنا،‭ ‬وما‭ ‬عاد‭ ‬يخطر‭ ‬ببالي‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الامر،‭ ‬حتى‭ ‬اجتمعنا‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الليالي،‭ ‬وكان‭ ‬يستحضر‭ ‬أمامي‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬التقطها‭ ‬في‭ ‬مارون‭ ‬الراس،‭ ‬ومن‭ ‬ضمنها‭ ‬صور‭ ‬الشهداء‭ ‬التي‭ ‬علقت‭ ‬على‭ ‬جدران‭ ‬مدينة‭ ‬مارون‭ ‬الراس،‭ ‬وفجأة‭ ‬مرت‭ ‬أمامنا‭ ‬صورة‭ ‬أخي‭ ‬الشهيد،‭ ‬ولكنني‭ ‬تجاهلت‭ ‬الأمر‭ ‬ولم‭ ‬اعلق‭ ‬عليه،‭ ‬راغبا‭ ‬بعدم‭ ‬اخباره،‭ ‬خاصة‭ ‬وانه‭ ‬تحدث‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬المحبة‭ ‬والتقديس‭ ‬لهؤلاء‭ ‬المقاومين‭ ‬وصورة‭ ‬أخي‭ ‬امامه،‭ ‬لم‭ ‬اخبره‭ ‬بأنه‭ ‬أخي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬احد‭ ‬المجتمعين‭ ‬معنا‭ ‬تحدث‭ ‬بإسهاب‭ ‬عن‭ ‬أخي،‭ ‬وتولى‭ ‬مسؤولية‭ ‬إخباره‭ ‬عن‭ ‬موضوع‭ ‬شهادة‭ ‬أخي،‭ ‬ودوره‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬تموز،‭ ‬والحوادث‭ ‬المعروفة‭ ‬التي‭ ‬حصلت‭ ‬معه،‭ ‬وأخبره‭ ‬بأنه‭ ‬أخي،‭ ‬فنظر‭ ‬إليّ‭ ‬المهندس‭ ‬نظرة‭ ‬غريبة،‭ ‬ظهرت‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬دهشته‭ ‬الشديدة‭. ‬
لكن‭ ‬المفاجأة‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬التغير‭ ‬الواضح‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬تعامله‭ ‬معي،‭ ‬مذ‭ ‬عرف‭ ‬أنني‭ ‬أكون‭ ‬أخا‭ ‬لشهيد،‭ ‬أي‭ ‬أنني‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬عوائل‭ ‬الشهداء،‭ ‬فأظهر‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الاحترام‭ ‬والتقدير‭ ‬والمحبة،‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬تعامله‭ ‬معي‭ ‬شخصياً،‭ ‬أصبحت‭ ‬مقرباً‭ ‬منه،‭ ‬وحاول‭ ‬من‭ ‬بعدها‭ ‬ربط‭ ‬علاقة‭ ‬عائلية‭ ‬مع‭ ‬الأهل‭ ‬والوالدين،‭ ‬تأكدت‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬أن‭ ‬المهندس‭ ‬ضعيف‭ ‬جداً‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الشهداء،‭ ‬حبه‭ ‬للشهداء،‭ ‬وتعلقه‭ ‬بهم‭ ‬أصبح‭ ‬نقطة‭ ‬ضعفه‭ ‬الواضحة،‭ ‬حيث‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬برزخي‭ ‬إذا‭ ‬صح‭ ‬التعبير‭ ‬في‭ ‬محضر‭ ‬الشهداء‭. ‬
هذا‭ ‬الأمر‭ ‬زادني‭ ‬محبة‭ ‬وتقديراً‭ ‬له‭ ‬ولشخصيته،‭ ‬وزادني‭ ‬افتخاراً‭ ‬لكوني‭ ‬أخاً‭ ‬لشهيد،‭ ‬وكنت‭ ‬أفتخر‭ ‬بالشهيد‭ ‬المهندس،‭ ‬أفخر‭ ‬أنه‭ ‬أراد‭ ‬التقرب‭ ‬مني،‭ ‬ومن‭ ‬عائلتي،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬العكس،‭ ‬كان‭ ‬يعتبر‭ ‬نفسه‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يحظى‭ ‬بشرف‭ ‬اللقاء‭ ‬ومعايشة‭ ‬إحدى‭ ‬عوائل‭ ‬الشهداء،‭ ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬يصب‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬تواضعه‭ ‬وبساطته‭.‬
والأمر‭ ‬الذي‭ ‬اتحسر‭ ‬عليه‭ ‬فعلا،‭ ‬هو‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬أي‭ ‬صورة‭ ‬تجمع‭ ‬والدي‭ ‬مع‭ ‬الشهيد‭ ‬رغم‭ ‬التقائه‭ ‬به،‭ ‬فقد‭ ‬غاب‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬عن‭ ‬ذهني،‭ ‬كانت‭ ‬الجلسة‭ ‬بينهما‭ ‬ودية‭ ‬وحميمية‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬لا‭ ‬تصدق،‭ ‬خرج‭ ‬بعدها‭ ‬وخرجنا‭ ‬بانطباع‭ ‬رائع‭ ‬مليء‭ ‬بالحب‭ ‬والتقدير،‭ ‬لقد‭ ‬ترك‭ ‬عند‭ ‬والدي‭ ‬أثرا‭ ‬هائلا‭ ‬في‭ ‬حجمه،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬التقاه‭ ‬لمرة‭ ‬واحدة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬كان‭ ‬كفيلاً‭ ‬بترك‭ ‬هذا‭ ‬الأثر‭ ‬لدى‭ ‬والدي‭ ‬الذي‭ ‬بكى‭ ‬عليه‭ ‬كثيراً،‭ ‬وحزن‭ ‬أشدّ‭ ‬الحزن‭ ‬لدى‭ ‬سماعه‭ ‬بخبر‭ ‬استشهاد‭ ‬المهندس،‭ ‬وكأنه‭ ‬كان‭ ‬يعرفه‭ ‬لسنواتٍ‭ ‬طويلة،‭ ‬وحتى‭ ‬الآن،‭ ‬لا‭ ‬يمنع‭ ‬الوالد‭ ‬دمعه‭ ‬من‭ ‬الانهمار‭ ‬عند‭ ‬ذكر‭ ‬المهندس‭ ‬والحديث‭ ‬عنه‭. ‬