img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

الحمامة


كنا‭ ‬ذاهبين‭ ‬إلى‭ ‬موعد‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬تقرر‭ ‬فيه‭ ‬اجتماع‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬التداول‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬العمل‭. ‬وكنا‭ ‬نشكل‭ ‬موكباً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬3‭ ‬سيارات،‭ ‬وفي‭ ‬طريقنا‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الاجتماع،‭ ‬شاهد‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬زجاج‭ ‬السيارة‭ ‬شيئاً،‭ ‬جعله‭ ‬يطلب‭ ‬إلى‭ ‬السائق‭ ‬التوقف‭ ‬فوراً،‭ ‬ظن‭ ‬البعض‭ ‬منا‭ ‬أن‭ ‬خطبا‭ ‬جليلاً‭ ‬قد‭ ‬حدث،‭ ‬ونحن‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬يترجل‭ ‬من‭ ‬السيارة‭ ‬مسرعا‭ ‬ويتوجه‭ ‬إلى‭ ‬الطريق،‭ ‬توجهت‭ ‬إليه‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬القلق،‭ ‬وإذا‭ ‬به‭ ‬يجلس‭ ‬القرفصاء‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الطريق‭ ‬وهو‭ ‬يحتضن‭ ‬حمامة‭ ‬بحنان‭ ‬بالغ،‭ ‬كأم‭ ‬تحتضن‭ ‬طفلها،‭ ‬يمسد‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬الصغير،‭ ‬وهي‭ ‬بالكاد‭ ‬كانت‭ ‬تستطيع‭ ‬الحراك،‭ ‬حملها‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬وقد‭ ‬قربها‭ ‬إلى‭ ‬صدره‭ ‬بتمهل‭ ‬شديد،‭ ‬بدت‭ ‬اللهفة‭ ‬واضحة‭ ‬على‭ ‬ملامح‭ ‬وجهه‭ ‬وهو‭ ‬يصعد‭ ‬إلى‭ ‬السيارة،‭ ‬وانصرف‭ ‬إليها‭ ‬كلياً‭ ‬وهو‭ ‬يدقق‭ ‬بمكان‭ ‬اصابتها‭ ‬برفق‭ ‬شديد،‭ ‬وقد‭ ‬عضَّ‭ ‬على‭ ‬شفته‭ ‬السفلى،‭ ‬وكأن‭ ‬الاصابة‭ ‬في‭ ‬جناحه‭ ‬هو‭.‬
احتفظ‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬رعاية‭ ‬شديدة،‭ ‬واصطحبها‭ ‬إلى‭ ‬منزله،‭ ‬وبقي‭ ‬يعالجها‭ ‬حتى‭ ‬تعافت‭ ‬تماما‭. ‬وقيل‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬أصرّ‭ ‬على‭ ‬اطلاقها‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬التقطها‭ ‬منه،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تستوحش‭ ‬مكاناً‭ ‬لا‭ ‬تعرفه،‭ ‬ولتلتقي‭ ‬بمن‭ ‬كانت‭ ‬تعيش‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬الطيور،‭ ‬ثم‭ ‬أطلقها‭ ‬لتطير‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الواسع،‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬اجنحتها‭ ‬سعيداً‭ ‬وهي‭ ‬تقتحم‭ ‬الهواء،‭ ‬مصدرة‭ ‬صوتاً‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬نشاطها‭ ‬وتعافيها،‭ ‬كأني‭ ‬به‭ ‬يحمّل‭ ‬اجنحتها‭ ‬رسالة‭ ‬إنسان‭ ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬فطرته‭ ‬التي‭ ‬فطره‭ ‬الله‭ ‬عليها،‭ ‬سعيداً‭ ‬بالمساعدة‭ ‬التي‭ ‬قدمها‭ ‬لها‭. ‬
اهتمامه‭ ‬وعطفه،‭ ‬لم‭ ‬يكونا‭ ‬مقتصرين‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬فقط،‭ ‬فهو‭ ‬يفكر‭ ‬بكل‭ ‬خلق‭ ‬الله‭ ‬بتلك‭ ‬الروحيّة‭ ‬الصافية‭ ‬نفسها،‭ ‬النابعة‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬مؤمن‭ ‬مفطور‭ ‬على‭ ‬العطف،‭ ‬كان‭ ‬إذا‭ ‬بقي‭ ‬طعام‭ ‬من‭ ‬الموائد،‭ ‬يجمعه‭ ‬في‭ ‬كيس،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬النهر‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬بحر،‭ ‬رماه‭ ‬هناك‭ ‬لتأكل‭ ‬منه‭ ‬الاسماك،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يتوفر‭ ‬ذلك،‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬البحر‭ ‬والنهر‭ ‬أبعد‭ ‬أو‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬يذهب‭ ‬إليه،‭ ‬وضع‭ ‬هذا‭ ‬الطعام‭ ‬الباقي‭ ‬من‭ ‬الموائد‭ ‬على‭ ‬رفوف‭ ‬الشبابيك،‭ ‬لتأكل‭ ‬منه‭ ‬الطيور‭.‬