img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

مرتين‭ ‬تاج‭ ‬راسي


المهندس‭ ‬حسام‭ ‬خوش‭ ‬نويس‭ ‬لم‭ ‬يهتم‭ ‬فقط‭ ‬بالمقاوم‭ ‬أو‭ ‬المجاهد‭ ‬أو‭ ‬المعتقل‭ ‬أو‭ ‬صاحب‭ ‬القضية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يظهر‭ ‬القدسية‭ ‬لشخص‭ ‬المقاوم‭ ‬ولحياته‭ ‬كلها،‭ ‬ولأفراد‭ ‬عائلته‭ ‬أولاداً،‭ ‬وآباء،‭ ‬وأمهات‭ ‬وزوجات،‭ ‬فهم‭ ‬برأيه‭ ‬امتداد‭ ‬لهذا‭ ‬الشخص،‭ ‬وهم‭ ‬أيضاً‭ ‬نهج‭ ‬ومنبع‭ ‬القضية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬مقدسة‭ ‬لديه‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لمسته‭ ‬أنا‭ ‬شخصياّ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬علاقتي‭ ‬بالمهندس‭. ‬
فقد‭ ‬كان‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬على‭ ‬اطلاع‭ ‬بقضيتي،‭ ‬وقضية‭ ‬اعتقالي‭ ‬الطويل،‭ ‬وأظهر‭ ‬ومنذ‭ ‬لقاءاتنا‭ ‬الأولى،‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الاحترام‭ ‬والتوقير‭ ‬والتمجيد‭ ‬لي،‭ ‬ولم‭ ‬يكتفِ‭ ‬بذلك،‭ ‬بل‭ ‬شمل‭ ‬هذا‭ ‬زوجتي‭ ‬ايضاً،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬عنها‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬التقدير،‭ ‬فهي‭ ‬برأيه‭ ‬امرأة‭ ‬نادرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاخلاص،‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬وفائها،‭ ‬وعن‭ ‬الصبر‭ ‬الذي‭ ‬تحلت‭ ‬به‭ ‬طوال‭ ‬ستة‭ ‬عشر‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬الفراق‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الاعتقال‭. ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يسأل‭ ‬عنها‭ ‬ويطمئن‭ ‬عن‭ ‬صحتها‭ ‬من‭ ‬خلالي‭. ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬يظهر‭ ‬لها‭ ‬التمجيد،‭ ‬والتعظيم‭ ‬عند‭ ‬لقائها،‭ ‬ويتواضع‭ ‬بشدة‭ ‬أمامها‭.‬
‭ ‬وبهذا‭ ‬السياق‭ ‬يمكنني‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬بين‭ ‬المهندس‭ ‬حسام،‭ ‬وبين‭ ‬ابني‭ ‬الصغير‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬ذي‭ ‬السنوات‭ ‬التسع‭. ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬هاتفي‭ ‬المحمول‭ ‬مع‭ ‬ولدي‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬حين‭ ‬اتصل‭ ‬بي‭ ‬المهندس‭ ‬يسألني‭ ‬أين‭ ‬أنا،‭ ‬فجرى‭ ‬بينهما‭ ‬الحوار‭ ‬التالي‭ ‬كما‭ ‬نقله‭ ‬الصغير‭ ‬حرفياً‭:‬
‭ - ‬سلام‭ ‬عليكم‭ ‬وينك؟
‭ - ‬وعليكم‭ ‬السلام‭ ‬
‭ - ‬كيف‭ ‬حالك‭ ‬حاج‭ ‬كاظم؟
‭ - ‬أنا‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬مش‭ ‬الحاج‭ ‬كاظم‭ ‬
‭ - ‬أنت‭ ‬تاج‭ ‬راسي‭ ‬
‭ - ‬أنت‭ ‬تاج‭ ‬راسي
‭ - ‬أنت‭ ‬مرتين‭ ‬تاج‭ ‬راسي
‭ - ‬أنت‭ ‬مليون‭ ‬مرة‭ ‬تاج‭ ‬راسي‭.‬
‭ ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬أطفال‭ ‬تلك‭ ‬العائلات،‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الاحترام‭ ‬والتقدير،‭ ‬فنشأت‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬أبناء‭ ‬تلك‭ ‬العائلات‭ ‬علاقة‭ ‬فريدة،‭ ‬وكانت‭ ‬علاقته‭ ‬بولدي‭ ‬الصغير‭ ‬محمد‭ ‬نموذجاً‭ ‬لتلك‭ ‬العلاقة‭ ‬الفريدة،‭ ‬وكأنها‭ ‬علاقة‭ ‬صداقة‭ ‬نديّة،‭ ‬وكان‭ ‬المهندس‭ ‬يهتم‭ ‬كثيراً‭ ‬بولدي‭ ‬الصغير‭ ‬هذا،‭ ‬يتابعه،‭ ‬ويشجعه،‭ ‬ويبحث‭ ‬عن‭ ‬وسائل‭ ‬لدعمه‭ ‬وتطويره‭. ‬
حين‭ ‬جاء‭ ‬خبر‭ ‬استشهاده‭ ‬كان‭ ‬ولدي‭ ‬الصغير‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬من‭ ‬يخبره‭ ‬بنبأ‭ ‬استشهاد‭ ‬المهندس‭. ‬وحين‭ ‬التقيته‭ ‬أخبرني‭ ‬بهذا‭ ‬الحديث‭ ‬العجيب‭ ‬وقال‭:‬ ‭ - ‬كنت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬متعباً،‭ ‬ذهبت‭ ‬لأنام‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬الدراسة‭ ‬الطويل‭ ‬ذلك،‭ ‬ولكنني‭ ‬عندما‭ ‬نمت‭ ‬رأيت‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬في‭ ‬منامي،‭ ‬وكأنه‭ ‬يصعد‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬ويديه‭ ‬منورتين‭ ‬ووجهه‭ ‬نور،‭ ‬وهو‭ ‬يبتعد‭ ‬قليلاً،‭ ‬قليلاً،‭ ‬وأنا‭ ‬أصرخ‭: ‬مهندس‭.. ‬مهندس‭ ‬توقف‭.. ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬اكلمك‭.. ‬أنا‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬ابن‭ ‬الحاج‭ ‬كاظم‭. ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬اكتفى‭ ‬بأن‭ ‬يلوح‭ ‬لي‭ ‬بيده‭ ‬حتى‭ ‬ابتعد‭ ‬واختفى‭.‬
‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬البريء‭ ‬الذي‭ ‬رآه‭ ‬طفل‭ ‬صغير‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬خبر‭ ‬استشهاد‭ ‬المهندس‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬شيئا‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬المهندس‭ ‬الشهيد‭ ‬كان‭ ‬يعرج‭ ‬بروحه‭ ‬إلى‭ ‬الجنة‭ ‬بيديه‭ ‬النيرتين،‭ ‬ووجهه‭ ‬الصبوح‭.‬
كان‭ ‬تأثير‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬في‭ ‬عائلتي‭ ‬كبيراً،‭ ‬لذا‭ ‬كان‭ ‬أثر‭ ‬استشهاده‭ ‬عليهم‭ ‬بليغاً‭. ‬في‭ ‬يوم‭ ‬شهادته‭ ‬كنت‭ ‬أنا‭ ‬خارج‭ ‬لبنان،‭ ‬في‭ ‬ايران‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬بحادثة‭ ‬استشهاده،‭ ‬حتى‭ ‬اتصل‭ ‬بي‭ ‬شاب‭ ‬من‭ ‬لبنان‭ ‬وأخبرني‭ ‬بذلك،‭ ‬لقد‭ ‬صدمت‭ ‬صدمة‭ ‬كبرى،‭ ‬فكانت‭ ‬صدمتي‭ ‬لا‭ ‬تخفى،‭ ‬ظاهرة‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬تصديقي‭ ‬للخبر،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭:‬ ‭ - ‬لا‭ ‬علم‭ ‬لدي‭ ‬سوف‭ ‬اتأكد‭ ‬من‭ ‬الخبر‭. ‬
وبعد‭ ‬تأكدي‭ ‬من‭ ‬خبر‭ ‬استشهاده،‭ ‬اتصلت‭ ‬مع‭ ‬زوجتي‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬وأخبرتها‭ ‬بهذا‭ ‬الخبر،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬الصراخ‭ ‬والبكاء،‭ ‬حتى‭ ‬غابت‭ ‬عن‭ ‬الوعي،‭ ‬سقطت‭ ‬وهي‭ ‬ماتزال‭ ‬على‭ ‬الخط‭. ‬ثم‭ ‬اتجهت‭ ‬هي‭ ‬ووالدتها‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬إلى‭ ‬ايران‭.‬
‭ ‬هذا‭ ‬الأثر‭ ‬البليغ‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬الشهيد‭ ‬في‭ ‬عائلتي،‭ ‬وباقي‭ ‬عوائل‭ ‬المجاهدين،‭ ‬أثر‭ ‬لا‭ ‬يمحى،‭ ‬وإنما‭ ‬يدلل‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬اهتمامه‭ ‬بخط‭ ‬الجهاد‭ ‬والمقاومة‭.‬