img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

أحسن‭.. ‬أوفر‭. .‬أسرع


‭ ‬وصل‭ ‬المهندس‭ ‬من‭ ‬السفر،‭ ‬كنا‭ ‬على‭ ‬ابواب‭ ‬السنة‭ ‬الجديدة،‭ ‬وكان‭ ‬ما‭ ‬يشغل‭ ‬بالي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬هو‭ ‬المفكرة‭ ‬التي‭ ‬نقدمها‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬جديد،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬إصدارها‭ ‬قبل‭ ‬بداية‭ ‬العام‭ ‬ليتسنى‭ ‬لنا‭ ‬توزيعها‭ ‬بشكل‭ ‬معقول،‭ ‬لكن‭ ‬المهندس‭ ‬طلب‭ ‬إليّ‭ ‬ملف‭ ‬الهيئة،‭ ‬وملف‭ ‬المفكرة‭ ‬معاً،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭:‬
‭ - ‬يا‭ ‬مهندس،‭ ‬دعنا‭ ‬ننتهي‭ ‬من‭ ‬ملف‭ ‬المفكرة،‭ ‬لأن‭ ‬الوقت‭ ‬ضاق‭ ‬والسنة‭ ‬الجديدة‭ ‬ستبدأ،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نهتم‭ ‬الآن‭ ‬بهذا‭ ‬الملف‭ ‬أولاً‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬
نظر‭ ‬إليّ‭ ‬وقد‭ ‬بدا‭ ‬عليه‭ ‬عدم‭ ‬الاقتناع‭ ‬بكلامي،‭ ‬ثم‭ ‬طلب‭ ‬إليّ‭ ‬أن‭ ‬أجلس،‭ ‬وقال‭:‬
‭ - ‬انت‭ ‬تذكرني‭ ‬بحكاية‭ ‬السائق‭ ‬في‭ ‬افغانستان‭.‬
‭ - ‬ماهي‭ ‬حكايته؟
‭ - ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬أفغانستان،‭ ‬وقد‭ ‬استلمت‭ ‬ملفاً‭ ‬مشابها‭ ‬لهذا‭ ‬الملف‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬وهو‭ ‬ملف‭ ‬إعادة‭ ‬الإعمار‭. ‬وفي‭ ‬أحد‭ ‬الايام‭ ‬كنت‭ ‬ذاهباً‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬رحلات‭ ‬العمل،‭ ‬وكان‭ ‬معي‭ ‬سائق،‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نتكلم،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬خلال‭ ‬الطريق‭ ‬مشغولا‭ ‬بأوراقي،‭ ‬وحين‭ ‬انتهيت‭ ‬منها،‭ ‬أردت‭ ‬الاستفادة‭ ‬منه،‭ ‬لأسأله‭ ‬بعض‭ ‬الاسئلة‭ ‬التي‭ ‬تتعلق‭ ‬بالمنطقة،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ : ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أسألك‭ ‬بعض‭ ‬الأسئلة‭. ‬فإذا‭ ‬بالسائق‭ ‬يخفف‭ ‬السير‭ ‬وهو‭ ‬يأخذ‭ ‬الجانب‭ ‬الايمن‭ ‬من‭ ‬الطريق،‭ ‬ثم‭ ‬أوقف‭ ‬السيارة‭. ‬ظننت‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬مشكلة‭ ‬ما،‭ ‬أو‭ ‬ان‭ ‬شيئاً‭ ‬أصاب‭ ‬السيارة،‭ ‬فسألته‭: ‬لماذا‭ ‬أوقفت‭ ‬السيارة؟‭!. ‬فأجاب‭ ‬السائق‭: ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أقود‭ ‬وأسمع‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭. .. ‬ما‭ ‬رايك؟‭. ‬أتريدنا‭ ‬أن‭ ‬نعمل‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬ونحن‭ ‬نستطيع‭ ‬انجاز‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الملفات‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬نحن‭ ‬لو‭ ‬عملنا‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬بإمكاننا‭ ‬مجاراة‭ ‬العالم،‭ ‬لذلك‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نعمل‭ ‬في‭ ‬عشرات‭ ‬الملفات‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬
وحين‭ ‬اقترب‭ ‬وقت‭ ‬إنجاز‭ ‬المفكرة،‭ ‬وكي‭ ‬لا‭ ‬يداهمنا‭ ‬الوقت،‭ ‬ونقصّر‭ ‬في‭ ‬انجازها،‭ ‬بقينا‭ ‬لمدة‭ ‬أسبوعين،‭ ‬ونحن‭ ‬نعمل‭ ‬على‭ ‬انجازها‭ ‬بشكل‭ ‬يومي،‭ ‬من‭ ‬الساعة‭ ‬السابعة‭ ‬بعد‭ ‬صلاة‭ ‬العشاء‭ ‬وحتى‭ ‬ساعات‭ ‬الصباح‭ ‬الاولى‭. ‬كان‭ ‬يترك‭ ‬العمل‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬الليل،‭ ‬فلديه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬في‭ ‬النهار‭. ‬
في‭ ‬أحد‭ ‬الايام‭ ‬كنا‭ ‬مضغوطين‭ ‬بالوقت،‭ ‬فبقينا‭ ‬حتى‭ ‬صلاة‭ ‬الصبح،‭ ‬وكان‭ ‬معنا‭ ‬الأخ‭ ‬عبد‭ ‬الله،‭ ‬وهو‭ ‬متكفل‭ ‬بتأمين‭ ‬مقومات‭ ‬الراحة‭ ‬والصمود،‭ ‬والأخ‭ ‬دانيال‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يساعدنا‭ ‬ايضاً،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬مرتبطاً‭ ‬في‭ ‬النهار،‭ ‬لديه‭ ‬برنامج‭ ‬تعليمي‭ ‬يبدأ‭ ‬عند‭ ‬الساعة‭ ‬السابعة‭ ‬والنصف‭ ‬صباحاً،‭ ‬أما‭ ‬أنا،‭ ‬فقد‭ ‬حلّ‭ ‬عليّ‭ ‬الإرهاق،‭ ‬وبدأ‭ ‬جسدي‭ ‬يطلب‭ ‬الراحة‭ ‬بشدة،‭ ‬لكننا‭ ‬كنا‭ ‬خجلين‭ ‬منه،‭ ‬فهو‭ ‬ايضاً‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مرهقاً،‭ ‬وبحاجة‭ ‬للراحة،‭ ‬ولديه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الاعمال‭ ‬التي‭ ‬تنتظره‭ ‬في‭ ‬الغد‭.‬
كنا‭ ‬ننتظر‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬هو‭ ‬بطلب‭ ‬الراحة،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يفعل،‭ ‬فانتظرنا‭ ‬حتى‭ ‬ذهب‭ ‬المهندس‭ ‬إلى‭ ‬الصلاة،‭ ‬وبدأت‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬إقناع‭ ‬الأخ‭ ‬دانيال‭ ‬بالهرب‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬المهندس‭ ‬من‭ ‬صلاته‭ ‬التي‭ ‬تطول‭ ‬عادة،‭ ‬ولكن‭ ‬الأخ‭ ‬دانيال‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر‭ ‬رافضاً،‭ ‬لكن‭ ‬تعبه‭ ‬أوصله‭ ‬إلى‭ ‬الاقتناع،‭ ‬فهو‭ ‬لن‭ ‬يستطيع‭ ‬التعليم‭ ‬غداً‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يذهب‭ ‬الآن‭ ‬ويأخذ‭ ‬قسطاً‭ ‬من‭ ‬الراحة،‭ ‬استطعت‭ ‬إقناعه‭ ‬وسارعنا‭ ‬في‭ ‬الهروب‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬منزلي‭ ‬حتى‭ ‬رن‭ ‬جرس‭ ‬الهاتف،‭ ‬رفعت‭ ‬السماعة‭ ‬فإذا‭ ‬بصوت‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭:‬
‭ - ‬عباس‭ ‬انت‭ ‬وين،‭ ‬ليش‭ ‬رحت‭ ‬عالبيت‭..‬؟‭!‬
كنت‭ ‬خجلاً‭ ‬منه‭ ‬فهو‭ ‬مازال‭ ‬يعمل،‭ ‬لكنه‭ ‬كعادته‭ ‬في‭ ‬شدة‭ ‬لطفه‭ ‬تابع‭ ‬يقول‭ ‬بلطف‭ ‬وبصوته‭ ‬الحنون‭ ‬ولهجته‭ ‬الثقيلة‭:‬
‭ - ‬طيب،‭ ‬أنا‭ ‬بانتظارك‭ ‬عشية‭. ‬
لا‭ ‬أستطيع‭ ‬القول‭ ‬أن‭ ‬العمل‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الطريقة‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالتفاني‭ ‬والإخلاص‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أسلوب‭ ‬ونمط‭ ‬حياة‭. ‬
هذه‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬النماذج‭ ‬والأمثلة،‭ ‬وهناك‭ ‬الكثير‭ ‬منها،‭ ‬فهي‭ ‬توضح‭ ‬تماماً،‭ ‬كيفية‭ ‬تعاطيه‭ ‬وإدارته‭ ‬لملف‭ ‬الهيئة‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬يكفينا‭ ‬شعاره‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يردده،‭ ‬ويعمل‭ ‬ضمنه،‭ ‬وفي‭ ‬حدوده،‭ ‬ويطالبنا‭ ‬باعتماده‭ ‬كمنهج‭ ‬عمل‭ ‬وهو‭:‬
‭ - ‬أحسن‭ ‬عمل‭.. ‬وأوفر‭ ‬كلفة‭.. ‬بأسرع‭ ‬وقت‭.‬
والى‭ ‬الآن،‭ ‬تبقى‭ ‬إنجازاته‭ ‬مضرباً‭ ‬للمثل،‭ ‬وأنا‭ ‬أؤكد‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الادارات‭ ‬التي‭ ‬تعاقبت‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬على‭ ‬وزارة‭ ‬الأشغال،‭ ‬واطلعت‭ ‬على‭ ‬ملف‭ ‬الهيئة،‭ ‬أذهلهم‭ ‬ما‭ ‬شاهدوه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الملف،‭ ‬لم‭ ‬يستوعبوا‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬الهيئة‭ ‬نفذت‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المشاريع‭ ‬بهذه‭ ‬الجودة،‭ ‬وهذه‭ ‬الكلفة،‭ ‬وبتلك‭ ‬السرعة‭ ‬القياسية‭.‬