في الحرب المفروضة
عندما بدأت الحرب قاوم، وكأنّ الحرب اشتعلت في داخله، فكان من الأوائل الذين تطوّعوا للمشاركة في الجبهة، وكان ذلك مبكراً جداً بالنسبة لنا، وبالنسبة للوالد على وجه الخصوص. ولأنّ المعنيّين لن يوافقوا على ذهابه دون توقيع الوالد، وكان يعلم ان الأمر سيكون صعباً على الوالد، وأنه سيرفض تقديم الموافقة، ولكي يتخطى موافقتة، وخوفاً من أن يعيقه هذا الأمر، قرّر ان يزوّر توقيعه، جاء والدي بعد ذلك بأيام وهو يحدثنا بإعجاب شديد ودهشة عن قدرة ولده على تزوير توقيعه، هذا التزوير المتقن الذي لا يمكن تمييزه، وقال:
- لو سألوني أهذا توقيعك؟ لقلت لهم نعم.. اذ لا فرق أبداً.. لن يكتشف حتى الخبراء أي فرق بين التوقيعين. وأردف ضاحكاً: - إنه ماهر فعلاً!.
وكان ذلك موافقة شفوية من الوالد على إرساله إلى الجبهة، أو إن الوالد علم أنه لن يستطيع الوقوف أمام رغبة ابنه الملحة، ثم علمنا بعد مدة أنه أصبح في كردستان، في منطقة سردشت، وهناك أخذ مكانه الذي كان يصبو اليه كمجاهد، وعمل بالحماس، والنشاط الذي لا نظير له، وظلّ هناك لفترة طويلة دون ان يفتر ذلك أو يقل، وأصبح أحد المؤسسين للحرس الثوري في منطقة سردشت. وبعد فترة تقرر التحاقي بخدمة العلم، وصادف أنهم أرسلوني إلى منطقة آذربايجان، والتي هي قريبة من مكان تواجده، وحين علم بأني سأذهب إلى هناك أرسل في طلبي قائلاً: لم لا تأتي إلينا هنا؟ المنطقة هنا هادئة جداً، والظروف مريحة جداً، وستقضي وقتاً جميلاً، وهنا ستعمل بشكل أفضل من آذربايجان. كل تلك الإغراءات جعلتني أوافق بسرور، ومنها أنني سأكون معه، وهذا أمر يسعدني وأحبه، كما أنني سأكون مرتاحاً كما قال، فوافقت معه على الفور، واتفقنا على ذلك، وقام هو بما يلزم من اتصالات وتنسيقات تقنية لنقلي إلى سردشت. وبالفعل، تمَّ إرسالي في مأمورية إلى هناك، ووصلت إلى الثكنة التي أخبرني أنه سيلقاني عندها. كانت الثكنة في منطقة صحراوية كثيرة الرمال، دخلت هناك، وبحثت عنه فلم أجده، سألت الحارس عنه، وأعطيته الاسم فطلب مني الانتظار، جلست أنتظر في هذه الصحراء التي تحيط بها الرمال، وأنا سعيد أُمنّي النفس بلقائه، وبالعمل المريح، والوقت الجميل الذي حدثني عنه. أُمضي الوقت وأنا أنظر الى الصحراء المترامية، وإذا بدراجة صغيرة تقتحم الأفق الصافي، مخلّفة غباراً كثيفاً غطى الأفق خلفها لشدة سرعتها، ولم أميّز سائقها الا حين اقترب من الثكنة، فعرفت إنه أخي، وضحكت وأنا أنظر إلى الغبار يغطي رأسه وثيابه، ترجل عن دراجته وتعانقنا، لم نتحدث إلا قليلاً، وبدا أنه في عجلة من أمره، ركب الدراجة، وتقدم بجلوسه إلى الأمام ما استطاع، وطلب مني وهو يضحك سعيداً بقدومي أن أركب بسرعة. أركبني خلفه على متن دراجته، وسار بي منطلقاً بسرعة كبيرة وسط الرمال الكثيفة، ولشدة سماكة الرمال وقعنا من على الدراجة عند أول منعطف، وزحفنا على الرمال لمسافة طويلة، كلٌّ في اتجاه، قام ضاحكا، وعلى نفس سرعته أقام الدراجة، وأعاد ركوبها، وأنا أركض خلفه أحاول مجاراته، وما إن ركبت حتى انطلق مجدداً، وبنفس السرعة، وهو يقول:
- عليك أن تعتاد على ذلك يا أخي العزيز. ما كنت لأبالي إذ هي إلا طريق مهما امتدت فإننا سنصل إلى المكان المريح الذي حدثني عنه، وبما أنني سأعمل مع أخي، فلابدّ أن تلك ميزة مهمة، ستزيد الموقف راحة وبهجة، ثم أنه سألني:
- ماذا ستفعل، وأي عمل يمكنك القيام به.
فقلت له أنا أتوقع تسهيل الأمور ووضعي في مكان مريح:
- أنا أتقن أعمال التصليحات بشكل عام.
- كلا، لا نريد عمّال تصليح هنا، اذهب إلى لواء حزب الله هناك سترتاح كثيراً. لم أكن أدري ما هو لواء حزب الله، وما هي مهماته، لكنني كنت متأكداً من أنه اختار لي المكان المناسب لأكون مرتاحاً كما وعدني، لكنّ الأمر لم يكن كذلك أبداً، فقد كان هذا اللواء متخصصاً في العمليات العسكرية الخطيرة والصعبة، هو في مقدمة الخطوط. فسألته منزعجاً:
- أهذا هو المكان المريح الذي وعدتني به، والذي سأقضي فيه وقتاً جميلاً؟
وكأنه اندهش من انزعاجي قال بكل مودة وصدق: - لقد اخترت لك أفضل مكان تستطيع أن تقدم فيه أفضل الخدمات.
ضحكت كثيراً وأنا أقارن بين مفهومي للراحة والوقت الجميل وبين مفهومه لهما، فهو لم يخدعني، لأن هذا المكان بالنسبة إليه هو قمة السعادة والراحة النفسية، فهو يرى أن السعادة توازي حجم العطاء. وطوال اقامتي معه لم يكن يميزني عن أحد لأنني شقيقه، بل على العكس تماماً، كان يتصرف بطريقة جعلتني أتمنى أحياناً لو لم أكن شقيقه، لأنه كان يعهد إليَّ بأصعب الأعمال وأكبرها جهداً، ويطلب إليّ تنفيذها بأسرع وقت.