أتأخذ مالا من أمك؟!
روى لي ابن عمي، أنه في الصغر كان يعمل مع والدي ويأخذ الأجر منه، وكانت أكثر أعمال والدي حينها في البناء.
كان يعمل معه منذ الصباح الباكر وحتى آخر النهار في الشمس الحارقة. يقول ابن عمي أنّ أبي كان يعمل بإخلاص لكل من يعمل لهم، ويعتني بالفقراء عناية خاصة، فهو معهم شديد التوفير، مقتصد الى أبعد الحدود، ليوفر عليهم ما استطاع، وأن أبي وبالرغم من ظروفه الاقتصادية الصعبة، ووضع المادي الضعيف، لكنه في كثير من الأحيان لم يكن يقبل بأخذ أكثر من نصف المبلغ المتعارف عليه حين يرى الفقر واضحاً على من عمل لهم. يستغربون هم ذلك، ويحتارون كيف يشكرونه على هذا الفارق الكبير بين ما يتقاضاه، وبين ما هو متعارف. كان هذا أسلوبه وتلك طريقته، كلما عمل لأحد الفقراء، وما أكثر الفقراء الذين يعمل لديهم، فهم كانوا ينتظرونه لعلمهم المسبق بإخلاصه، وتعاطفه معهم، حتى بات عمله مقتصرا عليهم تقريباً، دون أن يبالي بتدني مدخوله، رغم الوضع المادي الصعب الذي كان يعانيه، بل كان هناك ما هو أصعب وأمر، اذ كان يعيد لهم قسماً من المال المتفق عليه، وقد يتجاوز النصف أحيانا، فلا يبقى بعد هذا إلا القليل. يتابع ابن عمي حديثه ويقول:
- كنت أنظر اليه مدهوشاً، وبانزعاج شديد للذي يفعله، أكاد لا اصدق، لم يكن يعجبني ذلك أبداً، كنت أرى أن هذا كثير، وغير معقول، ليس خوفاً على أجرتي لأنّ أجرتي تبقى على حالها في كل الأحوال، ولم يكن ليقصّر معي، حتى كانت أجرتي، غير المحسومة في مثل تلك الحالات تضاهي أجرته أو تزيد عنها، كان انزعاجي من أجله، وأنا العارف بما يكسب، وبوضعه المالي الذي يشابه أوضاع هؤلاء الفقراء.
في إحدى المرات عملوا في أكثر من ورشة في يوم واحد، وكان يوماً طويلاً ومتعباً، ولم يقبل أبي أن يأخذ قرشاً واحداً لشدة فقر من عمل لديهم. وفي أحد تلك الايام -وكان ابن عمي قد سئم هذا الحال لأنها طالت- عمل عند امرأة مسنّة طوال اليوم، وحين انتهى العمل خرج من عندها دون أن يطلب منها أجراً، قائلاً:
- ان وضعها لن يسمح بذلك، وأجرنا نأخذه من الله.
وصادف أن تأخر ابن عمي وهو يجلب المعدات الباقية، فأعطته العجوز الأجر وهو أقل من المتعارف بكثير، فأخذه ابن عمي منها، دون علم والدي خوفاً من رفضه، وفي طريق العودة إلى المنزل انتظر ابن عمي ليبتعد كثيراً عن منزل العجوز، وحين اطمأن لبعد المسافة أخبر أبي وأعطاه المال، فما كان من أبي إلا أن توقف غاضباً، متهما إياه بالقسوة وقال يلومه:
- لكم انت قاسي القلب! هي امرأة عجوز.. أتأخذ من أمّك مالاً.؟! كيف فعلت وهي غير ميسورة الحال؟ أما رأيت حالها؟!
- ولكن.. إنه مبلغ قليل... وهي التي أعطتنا اياه عن طيب خاطر.
- وان يكن زهيداً، فهي أحوج إليه منا.
وعاد إلى منزلها رغم طول المسافة، وأجبره على إعادة المبلغ إليها كاملاً. وحين خرجا من عندها كان يطيب خاطري قائلاً:
- لقد تخلينا عن أجرٍ قليل لنأخذه من الله أكثر بكثير.