كانت الأولى والأخيرة
كلما أردتُ الحديث عن هذا الشهيد العظيم يستوقفني سؤالٌ يصعبٌ علي إغفاله..
إنّه أبي.. هل أستطيع التّحدّث من خارج تلك الدّائرة؟ هل أستطيع التّحدّث عنه كما يتحدّث عنه أي شخصٍ من العاملين معه طوال تلك السّنين؟ أن أخرج من صفة كوني أحد أبنائه؟ فهل من سبيلٍ إلى ذلك؟ هل هذا ممكن؟ وإن استطعتُ أن أتجرّد منها عند الكتابة، هل يستطيع القارئ ذلك؟
حين يقرأ القارئ اسمي يستحضر مباشرة تلك العلاقة، فهذا ابن يتحدّث عن أبيه.. لا مهرب من تلك الصّفة، وهنا تكمن المشكلة، فهذه الصّفة تستدعي الكثير مما يلازمها من صورٍ وذكريات، كما هو مألوفٌ ومعتاد. فحين بتحدّث الابن عن أبيه يتّكئ على صورٍ وذكريات عمادها الطّفولة والنّشأة الأولى، لتكون هي الأساس الذّي يبنى عليه في كلّ تلك المشاعر التّي تتجمّع عنصراً فوق عنصر، لتشكّل معالم تلك الحالة الفريدة. فالأبوّة حالةٌ مستقلّة لا تشبه سواها، وهي بلا شكّ عند الأبناء تعتمد على ذلك القديم، من صورٍ وذكريات وما تصحبها من مشاعر.
كيف سأتحدّث وأنا كلّما عدتُ إلى ذكرياتي القديمة أستجدي منها صور الابن ومشاعره وجدتها غائمةً ومبهمة؟ أشباح الصّور ضبابية الملامح، تحيطها مشاعر لا تعرف الاستقرار ولا الوضوح. صورٌ تكاد تكون خاوية من هذا الذّي يسمّى أبوّة، ليس في طفولتي فحسب، بل امتدّ هذا الخواء إلى سنيَّ مراهقتي الأولى. لا أجد مكان تلك الصور إلا صورة ضيف، ضيف جميل الطّيف، حسن المعشر، خفيف الظّلّ، قويّ الحضور، محبوباً، ولكنّه ضيفٌ قليل المكوث، ولم يتعمّق حضوره، وما أحاطت به مشاعر الابن..
أذكر كم كان هذا الحضور القليل جميلاً، وأذكر كم كان يسعدنا حضوره. كنتُ أرى حبّه الفائض في هذا الحضور القليل، أراه عميقا،ً ومؤثّراً، وشديد الوضوح، كما يرى الجالس في الظلمة ضوء البرق، قوياً، واضحاً، شاملاً، لكنّه سريع لا ترى فيه العيون الصّغيرة كلّ تفاصيل الأبوّة ومشاعرها، فهي تحتاج إلى استدامة في الكشف لتترسّخ، لتكون معرفة ثابتة قادرة على البقاء.
لقد كان أباً كثير السّفر، وفي غيابٍ طويلٍ ومتكرّر، ينتقل من بلدٍ إلى بلد، من العراق إلى أفغانستان، إلى دولٍ وبلدانٍ مجهولةٍ، أو في مدنٍ ايرانية بعيدة لم نكن نعرفها. هذا هو عمله، وتلك هي مهامه، وهو النّاشط الذّي يُعتمد عليه منذ البداية، وهو بعدُ حديث العهد في الرّجولة. كانت تلك الحالة قبل ولادتي، بل هي كانت كذلك حتى قبل زواجه، هذا ما كانت تقوله أمي.
كانت أمّي وحيدة أمّها، لقد توفّي جدّي وهي ما تزال صغيرة، فتاةً مؤمنةً طاهرةً على صغر سنها، أحبّت الثورة ورجالها، تلك المشاعر المبكرة كانت عميقة لديها لدرجة أنّها قرّرت أن لا تتزوّج الا رجلاً مجاهداً. وكان أبي واحداً منهم، وكان قد تخرّج حديثاً من الثّانويّة العامّة) الباكالوريا)، وأستعدّ لدخول الجامعة. وافقت على الزّواج منه على الفور، سعيدة بتحقيق رغبتها في الزّواج من مجاهد.
كانا عروسين حين بدأت الحرب، وفور زواجهما اضطرّ أبي للسّفر إلى كردستان، وأخذ عروسه معه، وكانت منطقة كردستان في حالة الحرب تحت الحصار الشّديد، فاضطرّا حينها للوصول إلى مكان إقامتهما بواسطة طوّافة عسكرية. ثم تركها بعد ذلك وحيدة هناك لمدّة شهرين، وهي في الخامسة عشر من العمر. تلك كانت البداية، ما ندمت أمّي أبداً، كما تقول، بل ازدادت حباً وتعلّقاً، كما ازدادت عطاءاً وتضحية. لقد تولّت ملء كل نقصٍ يسبّبه غيابه، وقامت بكلّ ما يلزم دون تقصيرٍ أو تأفّف، مما جعله يعتمد عليها مع الوقت اعتماداً كاملاً، ليستطيع تكريس حياته التي نذرها لله.
لقد لازم عدم الاستقرار حياتهما الزوجية كما لازمها غياب الزّوج، لقد تنقّلنا إلى مناطق عديدة لا أستطيع حصرها، فنحن ما كنا نكاد نستقرّ في مكان. وأذكر أنّني عدتُ يوماً من المدرسة حاملاً حقيبتي، فوجدتُ على باب المنزل شاحنةً، وعمّالاً وهم ينقلون أثاث منزلنا إلى الشاحنة، لننتقل فجأة، دون أي سابق إنذار إلى منزلٍ آخر في منطقةٍ أخرى. هكذا كانت حياة والدتي قبل مجيئنا، وظلّت كذلك بعده، في حلٍّ وترحال طوال تلك السّنين. وبالرّغم من غياب أبي الطّويل والمتكرّر، لم تعترض أمّي على قراره يوماً، بل كانت تشجّعه وابتسامة الرّضا لا تغادر وجهها.
كانت له نعم المعين، وهو الذّي يتحدّث عن ذلك دائماً، لا يترك مناسبةً إلا وعبّر لها عن امتنانه وحبّه، حين يأتي يشملها بعطفٍ لا مثيل له، يعاملها باحترامٍ بالغ، فهو طوال وجوده يدللها، وكنتُ أراه كمن يحار بأي طريقةٍ يعاملها، كان يقبّل يدها حين يطلب منها أي شيء، ولا يتوانى عن إظهار امتنانه وشكره بشتّى الطّرق. لطالما سمعتُه يطلب منها المسامحة، ويعتذر لها عن تقصيره وانشغاله. ويطلب اليها أن تحتسب ذلك عند الله، ويشهد هو بذلك حين لا يكفّ عن الدّعاء لها. ونحن نرى كلَّ ذلك منه متأثرين به، وهو يحاول تعويضها عن النقص الناتج عن غيابه الطويل والمتكرر.
وكان يشملنا نحن ايضاً بلطف المعاملة، وإظهار الحنان والمودة، لكن علاقته معنا، ومع أخي ألاكبر كانت ضمن حدود، لم يكن هذا الوقت القصير كافياً للانفتاح عليه، كما لا يستطيع المرء الانفتاح على ضيف مهما حسنت أخلاقه. بقي ذلك الحاجز ماثلاً بيننا، حاجز لا يمكن هدمه أو تخطيه، في هذا الوقت القصير كنا أنا وأخي نحبه كما يحب المرء شيئاً جميلاً وبعيداً، حبّ تكتنفه علاقة شبه رسمية .
وحدها أختي الصغيرة فاطمة تجاوزت هذا الحاجز، ولا أدري كيف استطاعت ذلك، ربما صغر سنها هو السبب، أو لأنه أحاطها بعناية خاصة، وفسح لها مجالاً أوسع، كنا نرى في علاقته معها عطفاً، وأبوةً أكبر، والكثير من الدلال، يعاملها كأنه صديقها الصغير، فتخطت هي الحاجز الذي لم أستطع أنا تجاوزه، فكانت تتحدث اليه، وتخبره بكلِّ تفاصيل يومياتها في غيابه، حتى إنها كانت تتجرأ حين يطول غيابه أن تعاتبه، وتطلب منه العودة، وتشكو فقده.
كان يقول لها حين تلحّ عليه بالشكوى من غيابه: - أنت وضعك أفضل بكثير من أبناء الشهداء.. فهم لا يحلمون بعودة والدهم، وأنا وإن تأخّرتُ أعود إليكِ.
تلك كانت معرفتي بأبي، وظلّت كذلك حتّى تاريخ قدومه إلى لبنان، اي بعد حرب تمّوز 2006 حين استلم ملف إعادة الإعمار، حيث بقي شهرين في لبنان، عاد بعدها إلى ايران، وأمضى أسبوعاً كاملاً فيها، أنهى خلاله كل الإجراءات اللازمة لاصطحابنا معه إلى لبنان. وكان إخوتي قد أنهوا عامهم الدّراسي، في ذلك الوقت كنت في التاسعة عشرة من عمري حين استقرّ بنا المقام في لبنان، عندها فقط بدأتُ أعرف أبي عن قرب، إذ سمح لي من الايام الأولى بالبقاء إلى جانبه، فقد تسلّمتُ أنا وأخي مهاماً خاصّة في أعمال الهيئة الايرانية. وكان عمل أخي الأكبر إداريّاً، أما أنا فقد كنتُ الأوفر حظّاً، لأن عملي كان ميدانيّاً ، وسمح لي ذلك بمرافقته في جميع أعماله ومشاريعه.
لقد استطعتُ خلال وقت قصير أن أظهر كفاءتي، وظهرت حاجته لي، وتعزّزت ثقته بي، خاصة وإنه لم ينشئ علاقاتٍ وثيقةً مع لبنانيين بعد. حتى بتُّ لا أفارقه إلا نادراً.
لقد كان ذلك مفترقاً حاسماً في حياتي، لأنني كنت قريباً منه، كنت أراه بوضوحٍ شديد. لقد رايتُه في كل أحواله، وتيقنّت خلالها بأنني لم أكن أعرفه، ثم بدأت معرفتي به تتوسع كل يوم، وأعرف الجديد عن شخصيته في كل يوم، وهالني ما عرفته، كنتُ أنظر إليه مبهوراً تسكنني الدهشة والإعجاب، كان يعاملني خلال عملي معه كأي عامل عادي، بل كان يتعبني أكثر من باقي العاملين معه خوفاً من أن أحمل أي ميزة عنهم لكوني ابنه. فيشقّ عليّ في العمل، ويعاملني كربّ عمل حاسمٍ وشديدٍ. أصبحت معرفتي به في هذه الأشهر القليلة أكثر غنىً من تسعة عشر عاماً، وقد رأيتُ صفاتاً لم أكن أخالها فيه. بل ما كنتُ أظنّها تكون في رجلٍ واحدٍ. كنت أقف ذاهلاً أمام الذي أراه منه.
حين بدأنا العمل كانت الأولوية لإعادة تأهيل المدارس، فالعام الدّراسي كان على الأبواب. رأيتُ حينذاك شخصيته الحاسمة والقوية. فإدارة البداية كانت من أصعب التحديات، وكان هناك الكثير مما يعتبر في الأولويات من وجهات نظر مختلفة، في تضاربٍ مربك، وكان يدير هذا بحسمٍ، وبرؤيةٍ واضحةٍ ثابتةٍ، لا يحيد عنها مهما كانت الظروف والضغوط. ومنذ البداية، أصرّ على أن تكون المخصصات المالية تحت إشرافه، وهو وحده الموكل بالصَّرف خوفاً من الهدر والفساد. عرّضه ذلك لكثير من الضغوط الكبيرة، لا مجال هنا لذكر تفاصيلها، لكنني من خلالها عرفتُ كم هو حازمٌ وقوي الشخصية، لا يستطيع أحد مهما بلغت رتبته الاجتماعية، أو السياسية أن يثنيه عن عزمه في مراعاة الأولويات في حاجة الناس، والإمساك بكامل زمام الأمور. وبعد الانتهاء من ملف إعادة بناء وتأهيل المدارس، بدأ المهندس بجولات على المناطق المتضررة في لبنان من الجنوب إلى البقاع. مناطقٌ عديدة متباعدة من أقصى لبنان إلى أقصاه، يتنقل بينها مدوناً جميع المعلومات والإحصاءات، مهتماً بالتفاصيل الصغيرة، مراعياً في حساباته كلّ شيء. وهناك في لقائه مع الناس رأيتُ الحبّ في عينيه، في كلامه، وفي احترامه الشديد، خاصة للفقراء، وعامّة الناس، بل رأيتُ ما هو أكثر من الحبّ، رأيتُ رجلاً لا يريد الانتماء لغير الفقراء. وكم كان يتدفّق حبّاً كلما التقى بعوائل الشهداء.
وحين بدأت المشاريع، واشتدّ الضغط، رأيتُ أكثر من وجه لهذه الشخصية الفذة. وجه الرّجل العملي الحريص على الوقت والمال، والذي يتابع كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالعمل، لا يكتفي بالجلوس خلف المكاتب، بل كان تواجده على الأرض أكثر بكثير من تواجده خلف المكتب. تكشَّفت لي تلك الشخصية من جديد كل يوم ، وكلما ازدادت تكشفاً، كلما ازددتُ انبهاراً وإعجاباً بها. فهذا الرّجل الدقيق الحازم المنظّم الذي يدير آلاف العمال في عشرات المشاريع والورش، ويتعامل مع أعلى الناس شأناً اجتماعياً وسياسياً، هو نفسه العامل البسيط الذي يلبس لباس العمال، ويعمل معهم بيده، وتحت الشمس. يضحك معهم ويتناول طعامهم.
وكان في جانب قلبه الكبير، قلب آخر هو قلب طفل، لم يصادف طفلاً إلا وقبله، ولاعبه، وسأله عن إسمه، وعن مدرسته، ويختم حديثه معهم بقبلة على الرأس، وقطعاً من الحلوى كان يحملها دائماً معه لهذا الغرض. وأذهلني كم هو شخص محبوب، حتى من الذي كان يخالفه الراي، أو يزعجه بسبب وقوفه مع الحق بلا مهادنة. فاستقامته لم تبعد الناس عنه عكس ما هو متوقّع. أعرف متعهداً يكنّ الكثير من الودّ والاحترام لأبي، استغربتُ كثيراً حين قيل لي أنه في بداية تعامله كان قد حسم عليه أبي 200,000$، لأنه استعمل مواداً من نوعيّة أخفّ مما تمّ الاتفاق عليه، وهو مبلغ كبير. وإذا بهذا المتعهد يزداد حبا وتعلقا بأبي.
لا يتهاون أبداً في جودة العمل، حرصاً على الوقت والمال، ويتعامل مع المخالفين بحزم وإن بدا قاسياً. هناك شيئ في شخصيته يجذب الناس اليه، لا يمكن حتى لأعدائه إلا التأثّر به، فلقد أحبه كلّ من عمل معه، فكيف بي أنا. في هذه الفترة كانت عواطفي تتجمع، لم يكن حباً فحسب هذا الذي يتجمع في قلبي، كان حبا وانبهارا، دهشةً واعجاباً، واستمرت عواطفي في ازدياد نحوه مع الوقت. وكانت على أشدّها حين طرحت مسألة زواجي. علمت خلالها أنّ أبي كان طوال تلك السنين يتابعنا بدقة عبر والدتي، ويعرف الكثير عنا، وعن عاداتنا، وأهوائنا، وطبائعنا.
ولأنه أحبّ اللبنانيين كثيراً، أراد أن يجعل بيننا وبينهم صلة قربى، ووجد عندي هوى في ذلك، وكان من خلال متابعته القديمة لي عارفاً بذوقي وأفكاري، بدا لي ذلك واضحاً من خلال حديثه معي، فصرت أردد بيني وبين نفسي: إن أبي يعرفني خير المعرفة. وتم الاتفاق مع والدتي على هذا الأمر، وخلال هذه الفترة رأيت منه الكثير من الودّ والحنان، لقد تأثرت كثيراً بالذي أبداًه لي، وبما فعله رغم ضيق وقته، وعلمت بمدى اطلاعه على سريرتي وأفكاري.
في يوم ميلاد خطيبتي لم يستطع الذهاب إلى تناول العشاء في منزل ذويها، فارسل إليها معي هدية لها باسمه، وفي تلك الليلة تحدثنا مطولاً بشأن الكثير من تفاصيل الزواج، وترك لي الخيار كاملاً في شان سكننا والزفاف. وفي صباح اليوم التالي غادر بيروت إلى حيث كان يتردد في سوريا، وعند وصوله حاولت الإتصال به، وكان الأمر صعباً، وعندما تمكنت من ذلك كانت هناك مشكلة في الجهاز، منعتني من سماع صوته، مما جعلني ارسل له رسالة نصية عبر الهاتف الجوال، والى الآن لم أتلقّ رداً على تلك الرسالة. لن أتحدث عن الأسى الذي خلفه نبأ استشهاده، ورحيله المفاجئ، لكن ندماً استولى على جوارحي، أشعرني بوجع شديد. ندمٌ على شكل تلك العلاقة بيننا، وتذكرت أنني ما حضنته يوماً، وما قبّلت رأسه، أو يديه، وتمنيت بشدة لو يعود، ولو ليوم واحد، لكي أرتمي في أحضانه وأقبله مراراً.
عند عودتنا إلى ايران لإتمام مراسم الدفن، اخترت أن أنزله بنفسي إلى لحده، نظرت إلى وجهه الذي ظل جميلاً رغم الموت، وضعت يدي تحت رأسه واحتضنته، نظرت إلى يده وتذكرت أنني ما قبلتهما يوماً، فأخذت يده ومسحت بها وجهي والدموع، وقبلتها بحرقة، وتلك كانت القبلة الأولى والأخيرة.