img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

اتركيني‭ ‬فالطريق‭ ‬شاقة


ولد‭ ‬الشهيد‭ ‬سنة‭ (‬1962‭) ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬سمنان‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬أم‭ ‬حنون‭ ‬صبورة،‭ ‬ووالد‭ ‬كادح،‭ ‬وقد‭ ‬أكمل‭ ‬مراحل‭ ‬دراسته‭ ‬في‭ ‬الابتدائية،‭ ‬والمتوسطة،‭ ‬والثانوية‭ ‬في‭ ‬سمنان‭. ‬ منذ‭ ‬صغره‭ ‬كان‭ ‬يشارك‭ ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية،‭ ‬والجهادية،‭ ‬والثقافية،‭ ‬وقد‭ ‬تطوع‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬التعبئة‭ ‬بعد‭ ‬بداية‭ ‬الحرب،‭ ‬وأرسل‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب،‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ "‬كله‭ ‬قندى‭" ‬وبدأ‭ ‬مهمته‭ ‬الأولى‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬الإشارة‭. ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬في‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬بسبب‭ ‬الإصابة‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬ثم‭ ‬ذهب‭ ‬بعدها‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬سردشت،‭ ‬وتشكل‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الحرس‭ ‬الثوري‭. ‬
كنت‭ ‬أعتبر‭ ‬رغم‭ ‬صغر‭ ‬سني،‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرجال‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬يسلكون‭ ‬الطريق‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬الله‭) ‬سبحانه‭ ‬وتعالى)،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬يجذبني‭ ‬إليه،‭ ‬سيرته‭ ‬تلك‭ ‬جعلتني‭ ‬أوافق‭ ‬على‭ ‬طلبه‭ ‬حين‭ ‬تقدم‭ ‬طالباً‭ ‬للزواج،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬وافقت‭ ‬على‭ ‬زواجه‭ ‬مني،‭ ‬طلبني‭ ‬للتكلم‭ ‬معه،‭ ‬لبّيت‭ ‬دعوته،‭ ‬وكانت‭ ‬والدته‭ ‬جالسة‭ ‬معنا،‭ ‬فصار‭ ‬يحدثني‭ ‬بهدوء‭ ‬وعطف،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭:‬ ‭ - ‬إن‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬اخترته‭ ‬لنفسي‭ ‬هو‭ ‬طريق‭ ‬صعب‭ ‬وشاق،‭ ‬فيه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المتاعب،‭ ‬وربما‭ ‬الإصابة،‭ ‬أو‭ ‬الأسر،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الشهادة،‭ ‬فإن‭ ‬كنت‭ ‬لا‭ ‬تمانعين‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تعيشي‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬قربة‭ ‬الى‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬فجزاك‭ ‬الله‭ ‬خير‭ ‬الجزاء،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬لا‭ ‬تستطيعين‭ ‬فسيذهب‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬في‭ ‬طريقه،‭ ‬وأنا‭ ‬أحترم‭ ‬رايك‭ ‬إن‭ ‬رفضتِ‭.‬
وافقت‭ ‬حينها،‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أفكر‭ ‬بالطريقة‭ ‬التي‭ ‬يفكر‭ ‬فيها،‭ ‬وأبلغته‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أصبو‭ ‬إليه،‭ ‬كانت‭ ‬أهدافنا‭ ‬مشتركة،‭ ‬وكان‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬الدين،‭ ‬والبلد،‭ ‬والعرض‭ ‬واجباً،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬يتطلب‭ ‬تضحية‭ ‬من‭ ‬المرأة‭ ‬و‭ ‬الرجل‭ ‬معاً‭.‬
في‭ ‬سنة‭ ‬1982‭ ‬عقدنا‭ ‬قراننا،‭ ‬وتم‭ ‬الزواج،‭ ‬عاد‭ ‬هو‭ ‬إلى‭ ‬الجبهة‭ ‬بعد‭ ‬ايام‭ ‬معدودة‭ ‬من‭ ‬زواجنا،‭ ‬وقد‭ ‬لحقت‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬بعد‭ ‬سنة‭ ‬قضيتها‭ ‬بعيداً‭ ‬عنه،‭ ‬ثم‭ ‬بقيت‭ ‬معه‭ ‬لمدة‭ ‬سنتين‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬الحرب،‭ ‬وتلك‭ ‬كانت‭ ‬رغبتي،‭ ‬إذ‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬معه،‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬جبهات‭ ‬القتال،‭ ‬وظلّ‭ ‬هو‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الجبهة‭. ‬
في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬كانت‭ ‬أوضاعنا‭ ‬المادية‭ ‬صعبةً‭ ‬جداً،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬سردشتت،‭ ‬فهي‭ ‬مدينة‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬الجبهة،‭ ‬وبالطبع‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬جميع‭ ‬الإمكانات‭ ‬متوفرة‭ ‬هناك،‭ ‬لأنها‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬العادية،‭ ‬ولم‭ ‬نكن‭ ‬نستطيع‭ ‬الذهاب‭ ‬والإياب‭ ‬للتسوق،‭ ‬أو‭ ‬لجلب‭ ‬ما‭ ‬نريد،‭ ‬بسبب‭ ‬الأوضاع‭ ‬الأمنية،‭ ‬والطرقات‭ ‬الخطرة‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الحرب‭. ‬فكنا‭ ‬نأكل‭ ‬مما‭ ‬تؤمنه‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬لنا،‭ ‬حالنا‭ ‬كحال‭ ‬المجاهدين،‭ ‬هذا‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬قدرتنا‭ ‬المادية‭ ‬الضعيفة‭. ‬وأذكر‭ ‬مرة‭ ‬حين‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬سردشت،‭ ‬اتصل‭ ‬بي‭ ‬قرابة‭ ‬المغرب‭ ‬وقال‭:‬
‭ - ‬ان‭ ‬لدينا‭ ‬ضيوفاً‭ ‬على‭ ‬الغداء‭.‬ فتفاجأت‭ ‬بطلبه‭ ‬وقلت‭ ‬له‭: ‬ ‭ - ‬ان‭ ‬هذا‭ ‬مستحيل،‭ ‬ماذا‭ ‬سنطعمهم‭... ‬لم‭ ‬أحضّر‭ ‬شيئاً،‭ ‬وإن‭ ‬حاولت‭ ‬فلا‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬المنزل‭..‬
كان‭ ‬المطبخ‭ ‬خاوياً‭ ‬تقريباً،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بالضيوف،‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬سنأتي‭ ‬لهم‭ ‬بالطعام‭ ‬اللائق‭.. ‬كان‭ ‬الوضع‭ ‬محرجاً،‭ ‬وكنت‭ ‬أفضِّل‭ ‬تأخير‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬وقت‭ ‬تكون‭ ‬فيه‭ ‬الأمور‭ ‬بحالة‭ ‬أفضل،‭ ‬لكنه‭ ‬قال‭ ‬لي‭:‬ ‭ - ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬سنأكل‭ " ‬اشكنه‭". ‬
فاعترضت‭ ‬بشدة‭ ‬وانا‭ ‬اقول‭:‬ ‭ - ‬إن‭ ‬الأمر‭ ‬معيب‭.. ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬ندعو‭ ‬ضيوفاً‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الطعام‭.‬
طلب‭ ‬إلىّ‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬اقلق‭. ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬دعوة‭ ‬أصدقائه‭ ‬منذ‭ ‬زمن،‭ ‬لكن‭ ‬وقته‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يسمح‭ ‬بذلك،‭ ‬وهذه‭ ‬المرة‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬متسع‭. ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرأوا‭ ‬دعاء‭ ‬التوسل،‭ ‬وبعض‭ ‬الأدعية‭ ‬والزيارات‭ ‬الخاصة‭ ‬بيوم‭ ‬الثلاثاء،‭ ‬فأراد‭ ‬دعوتهم‭ ‬لأن‭ ‬الفرص‭ ‬بالنسبة‭ ‬اليه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متوفرة‭ ‬دائماً،‭ ‬استطاع‭ ‬دعوتهم‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭. ‬ساعدني‭ ‬في‭ ‬المطبخ،‭ ‬وقام‭ ‬بنفسة‭ ‬لتحضير‭ ‬السفرة،‭ ‬ووضع‭ ‬وعاءً‭ ‬صغيراً‭ ‬أمام‭ ‬كل‭ ‬شخص،‭ ‬وقطعة‭ ‬خبز‭ ‬يابسة،‭ ‬ثم‭ ‬باشر‭ ‬بسكب‭ ‬الـ‭ "‬اشكنه‭" ‬لهم‭ ‬واحداً‭ ‬واحداً،‭ ‬وهو‭ ‬يضحك‭ ‬قائلاً‭ ‬لهم‭:‬ ‭ - ‬هذا‭ ‬عقابكم،‭ ‬لأنكم‭ ‬رضيتم‭ ‬بالمجيء‭ ‬إلى‭ ‬منزلي‭.‬
كان‭ ‬يواجه‭ ‬تلك‭ ‬الصعوبات‭ ‬بالمرح،‭ ‬فهو‭ ‬شخص‭ ‬ضحوك‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الأزمات،‭ ‬كأنّ‭ ‬تلك‭ ‬الصعوبات‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تدعو‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬السعادة‭. ‬
أذكر‭ ‬حين‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬سردشت،‭ ‬قام‭ ‬ايضاً‭ ‬بدعوة‭ ‬أحد‭ ‬قادة‭ ‬الجبهة،‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬عائلته،‭ ‬وأعطاني‭ ‬الوقت‭ ‬لتحضير‭ ‬الطعام‭ ‬بما‭ ‬لدينا‭ ‬من‭ ‬إمكانات‭ ‬بسيطة،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬دعاهم‭ ‬إلى‭ ‬الغداء،‭ ‬واستطعت‭ ‬تحضير‭ ‬طعام‭ "‬القيمة‭" ‬حينها،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لدينا‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬إضافي‭ ‬للاهتمام‭ ‬بضيوفنا‭ ‬بعد‭ ‬الغداء‭ ‬كما‭ ‬جرت‭ ‬العادة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أشعرني‭ ‬بالإحراج،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يعلم‭ ‬بخلو‭ ‬البيت،‭ ‬فطلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أقدم‭ ‬لهم‭ ‬الفواكه،‭ ‬فأخبرته‭ ‬بأن‭ ‬ليس‭ ‬لدينا‭ ‬فواكه‭ ‬أبداً،‭ ‬فوجد‭ ‬ملفوفة‭ ‬في‭ ‬المطبخ‭ ‬قال‭ ‬لي‭:‬ ‭ - ‬قدمي‭ ‬لهم‭ ‬الملفوف‭.‬
‭ - ‬كيف؟‭.. ‬إنها‭ ‬ليست‭ ‬فاكهة‭. ‬نستخدمها‭ ‬في‭ ‬السلطات‭.. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تقديمها‭ ‬وكأنها‭ ‬فاكهة ‭ - ‬لا‭ ‬عليكِ‭.. ‬إنها‭ ‬مناسبة فقام‭ ‬هو‭ ‬بغسلها‭ ‬وتقطيعها‭ ‬بشكل‭ ‬فني‭ ‬وجميل‭ ‬جداً‭.. ‬وبدت‭ ‬في‭ ‬الوعاء‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الروعة،‭ ‬وقدمها‭ ‬إلى‭ ‬الضيوف،‭ ‬فأبدوا‭ ‬إعجابهم،‭ ‬وضحكوا‭ ‬كثيراً‭. ‬أضفى‭ ‬ذلك‭ ‬جواً‭ ‬من‭ ‬الفرح‭ ‬والسعادة‭.‬
لم‭ ‬تكن‭ ‬الحياة‭ ‬سهلة،‭ ‬وكان‭ ‬ينظر‭ ‬إليّ‭ ‬دائماً‭ ‬بعطف‭ ‬شديد،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬منذ‭ ‬عدة‭ ‬سنوات‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الايام‭:‬ ‭ - ‬لمَ‭ ‬لا‭ ‬تتركينني‭ ‬وتذهبي‭ ‬لحالك‭ ‬فأنا‭ ‬طريقي‭ ‬شاقة‭ ‬وطويلة‭.‬؟
أبكاني‭ ‬حديثه‭ ‬حينها،‭ ‬فطلبت‭ ‬إليه‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يعيد‭ ‬على‭ ‬مسمعي‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭. ‬فأنا‭ ‬شخصياً‭ ‬كنت‭ ‬لا‭ ‬أعتبر‭ ‬نفسي‭ ‬سوى‭ ‬خادمة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬عندي‭ ‬أقرب‭ ‬الطّرق‭ ‬إلى‭ ‬الله،‭ ‬وإني‭ ‬اشكر‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬وهبني‭ ‬كل‭ ‬القوة‭ ‬والإرادة‭ ‬الكافية‭ ‬للثبات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬جانبه‭.‬ أنا‭ ‬وحيدة‭ ‬في‭ ‬عائلتي،‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬كلَّ‭ ‬شيء،‭ ‬الأب،‭ ‬والأخ،‭ ‬والزوج‭.‬
بقي‭ ‬في‭ ‬حركته‭ ‬الدائمة،‭ ‬وكأن‭ ‬الثورة‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬مستمرة،‭ ‬والحرب‭ ‬لم‭ ‬تضع‭ ‬أوزارها،‭ ‬أو‭ ‬هي‭ ‬قائمة‭ ‬بأشكال‭ ‬شتّى،‭ ‬بقي‭ ‬في‭ ‬نشاطه‭ ‬الفذ،‭ ‬إخلاصه‭ ‬وشغفه‭ ‬بالعطاء‭ ‬والعمل،‭ ‬لم‭ ‬يتغير‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬الحرب‭ ‬الإيرانية،‭ ‬بل‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يزداد‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬عشقاً‭ ‬وحيوية‭ ‬وقوة،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الأخير،‭ ‬رغم‭ ‬عمره‭ ‬الذي‭ ‬ناهز‭ ‬ال50‭ ‬عاماً،‭ ‬ظل‭ ‬كما‭ ‬هو،‭ ‬شخصاً‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬التعب،‭ ‬ويقوم‭ ‬بجميع‭ ‬أعماله‭ ‬بنشاط‭ ‬و‭ ‬قوة‭ ‬وإرادة،‭ ‬وبغاية‭ ‬التنظيم،‭ ‬لم‭ ‬أرَ‭ ‬شخصاً‭ ‬منظماً‭ ‬بقدره،‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬ورقة‭ ‬وقلماً‭ ‬دائماً،‭ ‬ويدوّن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يريد،‭ ‬ويبرمج‭ ‬وقته‭ ‬لكل‭ ‬شيء‭ ‬وبدقة‭ ‬تامة‭ ‬يحاول‭ ‬تنفيذ‭ ‬ما‭ ‬يكتبه‭.‬
رغم‭ ‬مشاغله‭ ‬وأعماله‭ ‬الكثيرة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ينسى‭ ‬عائلته،‭ ‬يقوم‭ ‬بالاتصال‭ ‬بنا‭ ‬دائماً،‭ ‬ويسأل‭ ‬عن‭ ‬جميع‭ ‬المستجدات،‭ ‬ويخبرنا‭ ‬بقراراته‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬طلبنا‭ ‬منه‭ ‬ذلك‭. ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬كان‭ ‬إلى‭ ‬جانبنا‭ ‬دائماً،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬مرة‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬القدوم‭ ‬ليهنئ‭ ‬ابنتنا‭ ‬فاطمة‭ ‬بعيد‭ ‬ميلادها،‭ ‬أرسل‭ ‬لها‭ ‬رسالة‭ ‬جميلة‭ ‬جداً‭ ‬حينها،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬نسي‭ ‬الموعد‭ ‬أبداً‭.‬
في‭ ‬العام‭ ‬2006‭ ‬ذهب‭ ‬في‭ ‬مهمته‭ ‬الأخيرة‭ ‬إلى‭ ‬لبنان،‭ ‬ولحقنا‭ ‬به‭ ‬بعد‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر‭. ‬وطبعاً‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لديه‭ ‬دوام‭ ‬إداري‭ ‬معين‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬ايران،‭ ‬يذهب‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬البقاع‭ ‬لمتابعة‭ ‬المشاريع،‭ ‬لكن‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬كان‭ ‬يعود‭ ‬ليلاً‭ ‬في‭ ‬الساعة‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة،‭ ‬أو‭ ‬الثانية‭ ‬عشر،‭ ‬وأحياناً‭ ‬يأتي‭ ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عمله‭ ‬مقيداً‭ ‬بوقت‭ ‬محدد،‭ ‬بل‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬وأي‭ ‬زمان‭. ‬أحياناً‭ ‬في‭ ‬ايام‭ ‬العطلة‭ ‬كان‭ ‬يأخذنا‭ ‬إلى‭ ‬المشاريع‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬نفذها‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يحرمنا‭ ‬من‭ ‬الخروج‭ ‬سوية‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬لا‭ ‬نعرفه،‭ ‬ليرفّه‭ ‬عنا،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬يتابع‭ ‬الأعمال،‭ ‬ويراقب‭ ‬حسن‭ ‬التنفيذ،‭ ‬وكان‭ ‬يسألنا‭ ‬دائماً‭ ‬عن‭ ‬رأينا،‭ ‬ويطلب‭ ‬بإصرار‭ ‬وجهة‭ ‬نظرنا‭ ‬في‭ ‬الأعمال،‭ ‬وحسن‭ ‬التنفيذ‭ ‬أو‭ ‬الاختيار،‭ ‬وقد‭ ‬يحتاج‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬الموضوع‭ ‬إلى‭ ‬آراء‭ ‬خبراء،‭ ‬لكنه‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬لاحترامه‭ ‬لنا‭ ‬لا‭ ‬أكثر‭. ‬وكنا‭ ‬نرى‭ ‬كيف‭ ‬يستقبله‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يعرفونه‭ ‬حين‭ ‬يرونه‭ ‬بالصدفة،‭ ‬كنا‭ ‬نرى‭ ‬شدة‭ ‬تعلقهم‭ ‬به،‭ ‬وهذا‭ ‬الاحترام،‭ ‬والحب‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬يبدونه،‭ ‬ورأينا‭ ‬حب‭ ‬الناس‭ ‬له‭ ‬بعد‭ ‬استشهاده،‭ ‬كان‭ ‬فوق‭ ‬التوقعات،‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬تواضعه‭ ‬واحترامه‭ ‬للآخرين،‭ ‬وأخلاقه‭ ‬والطيبة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتعامل‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬كلِّ‭ ‬الناس‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬كالمغناطيس‭ ‬في‭ ‬جذب‭ ‬الناس‭ ‬إليه،‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬صفاته‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتحلّى‭ ‬بها‭.‬
و‭ ‬كنا‭ ‬نرافقه‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬أخرى‭ ‬منذ‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬لبنان،‭ ‬حيث‭ ‬بدأ‭ ‬منذ‭ ‬الايام‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬المشاركة‭ ‬بالمجالس‭ ‬الدينية،‭ ‬كدعاء‭ ‬كميل،‭ ‬والجلسات‭ ‬القرآنية،‭ ‬وكنا‭ ‬نتعرف‭ ‬إلى‭ ‬البيئة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬أكثر‭ ‬وأكثر‭. ‬فهو‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬جميع‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقوم‭ ‬بها،‭ ‬كان‭ ‬يشارك‭ ‬بشكل‭ ‬فعّال‭ ‬في‭ ‬المراسم‭ ‬الدينية،‭ ‬كالأدعية،‭ ‬والمجالس،‭ ‬وزيارة‭ ‬عاشوراء،‭ ‬والى‭ ‬ما‭ ‬هنالك‭. ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬بدأ‭ ‬ببرنامج‭ ‬دعاء‭ ‬الندبة‭ ‬صباح‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬بين‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الايرانيين‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬فأصبحت‭ ‬الآن‭ ‬موعداً‭ ‬أسبوعياً‭ ‬للجميع‭.‬ أحمد‭ ‬الله‭ ‬كثيراً‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬خدمته‭ ‬طوال‭ ‬فترة‭ ‬زواجنا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬كمعلم‭ ‬لي،‭ ‬وأنا‭ ‬تلميذته،‭ ‬تزوجته‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬عمري‭ ‬15‭ ‬سنة،‭ ‬و‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬ال‭ ‬20‭ ‬و‭ ‬قد‭ ‬تعلمت‭ ‬منه‭ ‬الكثير‭: ‬الصبر،‭ ‬والشجاعة،‭ ‬والتواضع،‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬الصفات‭ ‬الحميدة‭.‬
لطالما‭ ‬كنت‭ ‬أراه‭ ‬شخصاً‭ ‬مختلفاً،‭ ‬نقياً،‭ ‬وطاهراً‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬الحدود،‭ ‬مستقيماً‭ ‬تقياً،‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬الشهادة‭ ‬والشهداء،‭ ‬أذكر‭ ‬أنه‭ ‬حين‭ ‬استشهد‭ ‬الشهيد‭ ‬أحمد‭ ‬كاظمي،‭ ‬في‭ ‬الحادثة‭ ‬المشؤومة‭ ‬لسقوط‭ ‬الطائرة،‭ ‬سنة‭ ‬2005،‭ ‬كان‭ ‬حزيناً‭ ‬جداً،‭ ‬لأن‭ ‬الحرب‭ ‬انتهت‭ ‬وباب‭ ‬الشهادة‭ ‬أصبح‭ ‬بعيداً‭ ‬عنه،‭ ‬وكان‭ ‬خائفا‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يطاله‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يريده‭. ‬لكنني‭ ‬أنا‭ ‬كنت‭ ‬أرى‭ ‬فيه‭ ‬وجه‭ ‬الشهيد،‭ ‬أما‭ ‬هو‭ ‬فلم‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬طلبها،‭ ‬ويدعو‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬صلاته‭ ‬دائماً‭ ‬ليرزقه‭ ‬أمنيته‭ ‬الغالية،‭ ‬حتى‭ ‬استجاب‭ ‬له‭ ‬أمنيته‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يستحقها‭.‬
هذه‭ ‬سطور‭ ‬مقتبسة‭ ‬من‭ ‬نص‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬كتبه‭ ‬سابقاً،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الأبيات‭ ‬الشعرية‭:‬ ‭" ‬إلهي،‭ ‬لم‭ ‬نستطع‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬عبيداً‭ ‬صالحين‭ ‬لك،‭ ‬اسودّت‭ ‬وجوهنا،‭ ‬واستحيينا‭ ‬من‭ ‬النظر‭ ‬إليك،‭ ‬اعتبرنا‭ ‬أنفسنا‭ ‬أصحاب‭ ‬حقوق‭ ‬وطلبات‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬كل‭ ‬النعم‭ ‬التي‭ ‬وهبتنا‭ ‬اياها،‭ ‬اللهم‭ ‬إنك‭ ‬رزقتنا‭ ‬العقل،‭ ‬والفطنة،‭ ‬والعين،‭ ‬والأذن،‭ ‬فلو‭ ‬رزقتنا‭ ‬كل‭ ‬ثروات‭ ‬العالم‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬لتكون‭ ‬أهم‭ ‬وأغلى‭ ‬من‭ ‬جوارحنا‭.. ‬ ايها‭ ‬الأعزاء،‭ ‬إن‭ ‬أعظم‭ ‬نعمة‭ ‬وثروة‭ ‬هي‭ ‬سلامة‭ ‬الجسم‭ ‬والصحة‭ ‬والعافية،‭ ‬تعالوا‭ ‬لنشكر‭ ‬الله‭... ‬إن‭ ‬ثورة‭ ‬إمامنا‭ ‬العزيز‭ ‬هي‭ ‬نعمة‭ ‬أنقذتنا‭ ‬من‭ ‬هوة‭ ‬الانحراف،‭ ‬وهدتنا‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬الثورة‭. ‬ إن‭ ‬حرب‭ ‬الدفاع‭ ‬المقدس‭ ‬رغم‭ ‬مرارتها،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬ضمنت‭ ‬البلد‭ ‬والشعب‭ ‬والشباب‭." ‬
زوجة‭ ‬الشهيد‭: ‬سأقرأ‭ ‬أبيات‭ ‬الشعر‭ ‬التي‭ ‬دونها‭: ‬
‭"‬لقد‭ ‬أتينا‭ ‬كي‭ ‬نموت‭ ‬رجالاً‭ .. ‬نشقى‭ ‬في‭ ‬صعوبات‭ ‬الحرب‭ ‬ونموت‭ ‬أبطالاً
نودّ‭ ‬أن‭ ‬نموت‭ ‬عشاقاً‭ ‬متيمين‭ ‬في‭ ‬سكرات‭ ‬العشق،‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬سوى‭ ‬العشق‭ ‬
من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬نموت‭ ‬هنا‭ ‬غرباء‭ ‬ومشتتين‭ ‬بين‭ ‬الأصدقاء‭ ‬
أمهلنا‭ ‬ايها‭ ‬الموت‭ ‬الخانق،‭ ‬فربما‭ ‬نموت‭ ‬شهداء،‭ ‬وأكفاننا‭ ‬مغطسة‭ ‬بدمائنا‭ .. "‬
ثم‭ ‬اضاف‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬كلمة‭ : "‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭".. ‬