اتركيني فالطريق شاقة
ولد الشهيد سنة (1962) في مدينة سمنان في كنف أم حنون صبورة، ووالد كادح، وقد أكمل مراحل دراسته في الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية في سمنان. منذ صغره كان يشارك في الأعمال الفنية، والجهادية، والثقافية، وقد تطوع في صفوف التعبئة بعد بداية الحرب، وأرسل إلى الجنوب، إلى منطقة "كله قندى" وبدأ مهمته الأولى هناك في عمل الإشارة. بعد عودته في المرة الأولى بسبب الإصابة عاد إلى الجنوب مرة أخرى، ثم ذهب بعدها إلى منطقة سردشت، وتشكل هناك في صفوف الحرس الثوري.
كنت أعتبر رغم صغر سني، أن هؤلاء الرجال هم الذين يسلكون الطريق الأقرب إلى الله) سبحانه وتعالى)، كل هذا كان يجذبني إليه، سيرته تلك جعلتني أوافق على طلبه حين تقدم طالباً للزواج، وبعد أن وافقت على زواجه مني، طلبني للتكلم معه، لبّيت دعوته، وكانت والدته جالسة معنا، فصار يحدثني بهدوء وعطف، وقال لي: - إن الطريق الذي اخترته لنفسي هو طريق صعب وشاق، فيه الكثير من المتاعب، وربما الإصابة، أو الأسر، أو حتى الشهادة، فإن كنت لا تمانعين من أن تعيشي مثل هذه الحياة قربة الى الله تعالى، فجزاك الله خير الجزاء، وإن كنت لا تستطيعين فسيذهب كل منا في طريقه، وأنا أحترم رايك إن رفضتِ.
وافقت حينها، لأنني كنت أفكر بالطريقة التي يفكر فيها، وأبلغته أنه هو ما أصبو إليه، كانت أهدافنا مشتركة، وكان الدفاع عن الدين، والبلد، والعرض واجباً، وهو في الأساس يتطلب تضحية من المرأة و الرجل معاً.
في سنة 1982 عقدنا قراننا، وتم الزواج، عاد هو إلى الجبهة بعد ايام معدودة من زواجنا، وقد لحقت به إلى هناك بعد سنة قضيتها بعيداً عنه، ثم بقيت معه لمدة سنتين في مناطق الحرب، وتلك كانت رغبتي، إذ أردت أن أكون معه، قريبة من جبهات القتال، وظلّ هو إلى نهاية الحرب في تلك الجبهة.
في تلك الفترة كانت أوضاعنا المادية صعبةً جداً، خاصة في مدينة سردشتت، فهي مدينة قريبة من الجبهة، وبالطبع لم تكن جميع الإمكانات متوفرة هناك، لأنها بعيدة عن الحياة العادية، ولم نكن نستطيع الذهاب والإياب للتسوق، أو لجلب ما نريد، بسبب الأوضاع الأمنية، والطرقات الخطرة في حالة الحرب. فكنا نأكل مما تؤمنه القوات المسلحة لنا، حالنا كحال المجاهدين، هذا إضافة إلى قدرتنا المادية الضعيفة. وأذكر مرة حين كنا في سردشت، اتصل بي قرابة المغرب وقال:
- ان لدينا ضيوفاً على الغداء. فتفاجأت بطلبه وقلت له: - ان هذا مستحيل، ماذا سنطعمهم... لم أحضّر شيئاً، وإن حاولت فلا شيء في المنزل..
كان المطبخ خاوياً تقريباً، أو أن ما فيه لا يليق بالضيوف، من أين سنأتي لهم بالطعام اللائق.. كان الوضع محرجاً، وكنت أفضِّل تأخير الدعوة إلى وقت تكون فيه الأمور بحالة أفضل، لكنه قال لي: - لا بأس سنأكل " اشكنه".
فاعترضت بشدة وانا اقول: - إن الأمر معيب.. لا نستطيع أن ندعو ضيوفاً على مثل هذا الطعام.
طلب إلىّ أن لا اقلق. كان يريد دعوة أصدقائه منذ زمن، لكن وقته لم يكن يسمح بذلك، وهذه المرة كان في الوقت متسع. بعد أن قرأوا دعاء التوسل، وبعض الأدعية والزيارات الخاصة بيوم الثلاثاء، فأراد دعوتهم لأن الفرص بالنسبة اليه لم تكن متوفرة دائماً، استطاع دعوتهم هذه المرة. ساعدني في المطبخ، وقام بنفسة لتحضير السفرة، ووضع وعاءً صغيراً أمام كل شخص، وقطعة خبز يابسة، ثم باشر بسكب الـ "اشكنه" لهم واحداً واحداً، وهو يضحك قائلاً لهم: - هذا عقابكم، لأنكم رضيتم بالمجيء إلى منزلي.
كان يواجه تلك الصعوبات بالمرح، فهو شخص ضحوك حتى في الأزمات، كأنّ تلك الصعوبات ما كانت تدعو إلا إلى السعادة.
أذكر حين كنا في سردشت، قام ايضاً بدعوة أحد قادة الجبهة، ولكن مع عائلته، وأعطاني الوقت لتحضير الطعام بما لدينا من إمكانات بسيطة، وكان قد دعاهم إلى الغداء، واستطعت تحضير طعام "القيمة" حينها، ولم يكن لدينا أي شيء إضافي للاهتمام بضيوفنا بعد الغداء كما جرت العادة، وهذا ما أشعرني بالإحراج، ولم يكن يعلم بخلو البيت، فطلب مني أن أقدم لهم الفواكه، فأخبرته بأن ليس لدينا فواكه أبداً، فوجد ملفوفة في المطبخ قال لي: - قدمي لهم الملفوف.
- كيف؟.. إنها ليست فاكهة. نستخدمها في السلطات.. لا يمكن تقديمها وكأنها فاكهة - لا عليكِ.. إنها مناسبة فقام هو بغسلها وتقطيعها بشكل فني وجميل جداً.. وبدت في الوعاء غاية في الروعة، وقدمها إلى الضيوف، فأبدوا إعجابهم، وضحكوا كثيراً. أضفى ذلك جواً من الفرح والسعادة.
لم تكن الحياة سهلة، وكان ينظر إليّ دائماً بعطف شديد، حتى أنه منذ عدة سنوات قال لي في أحد الايام: - لمَ لا تتركينني وتذهبي لحالك فأنا طريقي شاقة وطويلة.؟
أبكاني حديثه حينها، فطلبت إليه أن لا يعيد على مسمعي مثل هذا الكلام مرة أخرى. فأنا شخصياً كنت لا أعتبر نفسي سوى خادمة له في هذا الطريق الذي هو عندي أقرب الطّرق إلى الله، وإني اشكر الله الذي وهبني كل القوة والإرادة الكافية للثبات في هذا الطريق إلى جانبه. أنا وحيدة في عائلتي، لذلك كان هو بالنسبة لي كلَّ شيء، الأب، والأخ، والزوج.
بقي في حركته الدائمة، وكأن الثورة ما زالت مستمرة، والحرب لم تضع أوزارها، أو هي قائمة بأشكال شتّى، بقي في نشاطه الفذ، إخلاصه وشغفه بالعطاء والعمل، لم يتغير منذ زمن الحرب الإيرانية، بل أنه كان يزداد يوماً بعد يوم عشقاً وحيوية وقوة، حتى في الزمن الأخير، رغم عمره الذي ناهز ال50 عاماً، ظل كما هو، شخصاً لا يعرف التعب، ويقوم بجميع أعماله بنشاط و قوة وإرادة، وبغاية التنظيم، لم أرَ شخصاً منظماً بقدره، كان يحمل ورقة وقلماً دائماً، ويدوّن كل ما يريد، ويبرمج وقته لكل شيء وبدقة تامة يحاول تنفيذ ما يكتبه.
رغم مشاغله وأعماله الكثيرة لم يكن ينسى عائلته، يقوم بالاتصال بنا دائماً، ويسأل عن جميع المستجدات، ويخبرنا بقراراته في الكثير من الأمور في حال طلبنا منه ذلك. بشكل عام كان إلى جانبنا دائماً، حتى أنه مرة لم يستطع القدوم ليهنئ ابنتنا فاطمة بعيد ميلادها، أرسل لها رسالة جميلة جداً حينها، ولم يكن قد نسي الموعد أبداً.
في العام 2006 ذهب في مهمته الأخيرة إلى لبنان، ولحقنا به بعد ثلاثة أشهر. وطبعاً لم يكن لديه دوام إداري معين في لبنان، كما لم يكن في ايران، يذهب يوماً بعد يوم إلى الجنوب، أو إلى البقاع لمتابعة المشاريع، لكن بشكل عام كان يعود ليلاً في الساعة الحادية عشرة، أو الثانية عشر، وأحياناً يأتي ثم يعود إلى العمل. لم يكن عمله مقيداً بوقت محدد، بل يعمل في أي وقت وأي زمان. أحياناً في ايام العطلة كان يأخذنا إلى المشاريع التي قد نفذها كي لا يحرمنا من الخروج سوية في بلد لا نعرفه، ليرفّه عنا، وفي الوقت نفسه يتابع الأعمال، ويراقب حسن التنفيذ، وكان يسألنا دائماً عن رأينا، ويطلب بإصرار وجهة نظرنا في الأعمال، وحسن التنفيذ أو الاختيار، وقد يحتاج مثل ذلك الموضوع إلى آراء خبراء، لكنه يفعل ذلك لاحترامه لنا لا أكثر. وكنا نرى كيف يستقبله الناس الذين يعرفونه حين يرونه بالصدفة، كنا نرى شدة تعلقهم به، وهذا الاحترام، والحب الكبير الذي يبدونه، ورأينا حب الناس له بعد استشهاده، كان فوق التوقعات، أظن أن تواضعه واحترامه للآخرين، وأخلاقه والطيبة التي كان يتعامل بها مع كلِّ الناس كانت تعمل كالمغناطيس في جذب الناس إليه، هي من أهم صفاته التي كان يتحلّى بها.
و كنا نرافقه أيضاً إلى أماكن أخرى منذ وصلنا إلى لبنان، حيث بدأ منذ الايام الأولى في المشاركة بالمجالس الدينية، كدعاء كميل، والجلسات القرآنية، وكنا نتعرف إلى البيئة الاجتماعية في لبنان أكثر وأكثر. فهو إلى جانب جميع الأعمال التي كان يقوم بها، كان يشارك بشكل فعّال في المراسم الدينية، كالأدعية، والمجالس، وزيارة عاشوراء، والى ما هنالك. حتى أنه هو من بدأ ببرنامج دعاء الندبة صباح يوم الجمعة بين الأصدقاء الايرانيين في لبنان، فأصبحت الآن موعداً أسبوعياً للجميع. أحمد الله كثيراً أنني كنت في خدمته طوال فترة زواجنا، فقد كان كمعلم لي، وأنا تلميذته، تزوجته عندما كان عمري 15 سنة، و كان هو في ال 20 و قد تعلمت منه الكثير: الصبر، والشجاعة، والتواضع، والكثير من الصفات الحميدة.
لطالما كنت أراه شخصاً مختلفاً، نقياً، وطاهراً إلى أبعد الحدود، مستقيماً تقياً، قريباً من الشهادة والشهداء، أذكر أنه حين استشهد الشهيد أحمد كاظمي، في الحادثة المشؤومة لسقوط الطائرة، سنة 2005، كان حزيناً جداً، لأن الحرب انتهت وباب الشهادة أصبح بعيداً عنه، وكان خائفا أن لا يطاله كما كان يريده. لكنني أنا كنت أرى فيه وجه الشهيد، أما هو فلم يكف عن طلبها، ويدعو الله في صلاته دائماً ليرزقه أمنيته الغالية، حتى استجاب له أمنيته التي كان يستحقها.
هذه سطور مقتبسة من نص كان قد كتبه سابقاً، بالإضافة إلى بعض الأبيات الشعرية: " إلهي، لم نستطع أن نكون عبيداً صالحين لك، اسودّت وجوهنا، واستحيينا من النظر إليك، اعتبرنا أنفسنا أصحاب حقوق وطلبات في مقابل كل النعم التي وهبتنا اياها، اللهم إنك رزقتنا العقل، والفطنة، والعين، والأذن، فلو رزقتنا كل ثروات العالم ما كانت لتكون أهم وأغلى من جوارحنا.. ايها الأعزاء، إن أعظم نعمة وثروة هي سلامة الجسم والصحة والعافية، تعالوا لنشكر الله... إن ثورة إمامنا العزيز هي نعمة أنقذتنا من هوة الانحراف، وهدتنا إلى طريق الثورة. إن حرب الدفاع المقدس رغم مرارتها، إلا أنها ضمنت البلد والشعب والشباب."
زوجة الشهيد: سأقرأ أبيات الشعر التي دونها:
"لقد أتينا كي نموت رجالاً .. نشقى في صعوبات الحرب ونموت أبطالاً
نودّ أن نموت عشاقاً متيمين في سكرات العشق، في المكان الذي لا يعرف سوى العشق
من الصعب أن نموت هنا غرباء ومشتتين بين الأصدقاء
أمهلنا ايها الموت الخانق، فربما نموت شهداء، وأكفاننا مغطسة بدمائنا .. "
ثم اضاف إليه هو كلمة : "إن شاء الله"..