اعتقال مبارك
كنت أزيل الردم عن المدرسة، بعد انتهاء حرب تموز بأيام، وإذا بثلاث سيارات رباعية الدفع تتوقف على مقربة مني، وترجل أفرادها، كانوا يتبعون رجلا بدا أنه شخص مهم، سلم علي ثم نظر حوله فرأى الصورة المعلقة لولدي الشهيد محمود خلف المدفعيّة، فسأل مرافقيه عن تلك الصورة، فقالوا له أنها صورة مقاوم استشهد خلال عدوان تموز في عيتا، ثم أشاروا إليّ قائلين انني والد هذا الشهيد، فما كان منه إلا أن اقترب مني وأخذ يدي، ظننت أنه يريد إعادة السلام، لكنني صعقت وأنا أراه ينحني على يدي ويقبلها، سحبت يدي وأنا غارق بارتباكي وخجلي من فعل هذا الرجل، وأنا أردد في ارتباك:
- عفواً.. عفواً أنا لا أقبل..
لأول مرة في حياتي أتعرض لهذا الموقف، أو أرى مثل هذا المشهد، لم أكن أعرف هويته بعد، كان يتحدث العربية بصعوبة، فهمت منها كلمات عن البركات والشرف العظيم، وقام الرجال المرافقون بالترجمة والتعريف به: إنه المهندس حسام خوش نويس ممثل الجمهورية الاسلامية ورئيس الهيئة الايرانية لإعادة الاعمار. توطدت علاقتنا منذ ذلك الوقت، حتى أصبح الحاج حسام شخصاً من العائلة، وأقرب إنسان إلى قلبي، من خلال مواساته لي، يفرح لفرحي، ويحزن لحزني كأب وأخ. في أحد الايام كنت أقرأ الصحيفة عند الساعة الحادية عشرة ليلاً، وإذا بالهاتف يرن، وكنت قد قلت لزوجتي أن لا تقول لأحد أنني موجود، ولكنني سمعتها تسلّم على المتصل وتخبره بأنني موجود، قمت مستغرباً تصرف زوجتي لأعرف من المتصل فقالوا لي:
- نحن نكلمك من السفارة الايرانية - خيراً إن شاء الله
ثم سمعت صوت المهندس حسام يكلمني قائلا: - نريد أن نراك..
وأعطى الهاتف لأحد الشباب اللبنانيين ليترجم لي ما يقوله، فسألني الشاب إن كنت أستطيع السهر وانهم يريدون زيارتي الآن فقلت: - أهلاً وسهلاً. - اعطنا العنوان لو سمحت
- سأعطيكم العنوان ولكن سأنتظركم بسيارتي بجانب مستشفى السان تيريز، لأنه إن تُهتم في الطريق وأردتم أن تسألوا أحداً، لن تجدوا من يدلكم، فالوقت متأخر، سأكون هناك بانتظاركم، ولون سيارتي فضي.
في تلك الفترة كنت قد قرأت عن قصة ضابط في الأمن العام وهو عميل، مهمته رصد بيوت أهالي الشهداء، فبعد أن اعطيتهم العنوان بدأ ضميري يؤنبني وبدأ القلق يتسرب إلى نفسي، خفت أن أكون وقعت وأوقعتهم في كمين يؤدي الى هلاكنا، لكن في الوقت ذاته لم يكن من اللائق عدم الذهاب. وضعت السلاح في السيارة وذهبت الى المستشفى، وهناك ركنت السيارة، وأضأت إشاراتها، ونزلت أتمشى وأدخن، وبعد حوالي ثلث ساعة وصل موكب مؤلف من ثلاث سيارات رباعية الدفع، ذات لون واحد، ما إن رأيتهم حتى لوحت بيدي، وركبت في سيارتي، لأسير أمامهم، وأدلهم على الطريق، وما إن أدرت محرك السيارة حتى سمعت أحدهم يناديني، نظرت فإذا بالمهندس حسام يغادر الموكب ويتجه إليّ، نزلت من السيارة لأرى ماذا يريد، فبادرني بقوله: - نزلت لأركب معك في السيارة
نظرت اليه مبتسماً وهو يجلس قربي، وأنا أقول لنفسي: لكم هو لائق في كل تصرفاته هذا الرجل. وصلنا الى مثلث كنت قد أنشأته وبنيت فيه نُصباً تذكارياً، وعلقت عليه صورة الشهيد محمود، وزرعت تحت النصب مجموعة من الورود، توقفت سيارات الوفد أمام النصب، فأوقفت سيارتي، فإذا بالجميع يترجل من السيارات، واقتربوا من النصب، قرأوا سورة الفاتحة وتباركوا من الورد المزروع. وهناك قلت لهم أني سآخذهم إلى منزلي الذي أسكنه في الوقت الحالي، فقالوا:
- هل كان يسكن هناك الشهيد محمود. - لا.. كان يسكن في المنزل الثاني. - إذا نذهب الى هناك
صعدنا الى المنزل الثاني كما طلبوا، واردت أن أدخلهم الى الصالون، لأقوم بضيافتهم، لكنهم أصروا أن يدخلوا الى غرفة الشهيد، فقلت لزوجتي افتحي لهم الغرفة، وأنا بصراحة لم أكن أعرف تاريخ اليوم بالتقويم الهجري، وان هذا اليوم هو الخامس عشر من شعبان، ولادة إمامنا الحجة (عجل الله فرجه الشريف) . دخلوا إلى الغرفة كأنهم يدخلون الى مكان مقدس، فتحوا خزانة الشهيد فوجدوا ثيابه، وأغراضه، وصوره، تباركوا بها، ثم فتح كلُّ واحد منهم كتاب مفاتيح الجنان، وبدأوا يقرؤون دعاء كميل بصوت حنون يتخلله البكاء، وهم الذين لا يجيدون العربية، وظلوا على هذه الحال من الساعة الثانية عشر والربع حتى الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، جلسنا بعد ذلك في الصالون، وبادرني المهندس حسام قائلاً: - رفقاء الشهيد معهم هدية.
كانت الهدية تحت عنوان: "غيض من فيض"، وهي لوحة تمثل جزءاً من العمليات التي شارك فيها الشهيد محمود. فنظرت إليهم وإذا هم كبار في السن ولحاهم بيضاء، فاستغربت وضحكت، وقلت في نفسي كيف يكونون رفاق الشهيد وهو في الثلاثين من العمر، وهم كبار في السن،؟ وعرفني المهندس حسام على من معه، واحداً بعد واحد، أدركت بعدها بأنهم ضباط في الحرس الثوري، وأنهم هم من مدربي ولدي محمود، ليكون من أهم ضباط المدفعية، حيث كان يلقب بصائد الميركافا.
زارني مرات عديدة في منزلي، في مناسبات لم أعد اذكرها، زارني مرة مع وفد لبناني (شباب التعبئة)، وأحضر لي هدية وهي عبارة عن دعاء منقوش على قطعة جلد، وموضوع في إطار، وضعتها في الصالون، كان يسرق هذه الزيارات سرقة من جدول أعماله المزدحم، وهذا ما يدل على مدى حبه لآثار الشهداء والتبرّك بها. في زيارة له الى منزلي، أرادوا أن يشربوا الشاي فقط ويعايدونني في مناسبة معينة نسيتها الآن، وكانوا على عجلة من أمرهم لأن الشهيد حسام لديه لقاء عمل في السفارة، كنت أعلم صعوبة تأجيل مثل تلك المواعيد الرسمية، لكنني رفضت أن يغادروا قبل تناول طعام العشاء عندي، وحجزت مفاتيح السيارة وقلت له:
- اعتبر نفسك معتقلاً عندي، فلتأت السفارة لتفاوضني لأفك أسرك.
ضحك كثيراً وقال:
- اعتقال مبارك
وقام من فوره واتصل بالسفارة، واعتذر عن موعده، وطلب تأجيله.