صلاة ووعد
عند قدوم المهندس حسام كنت مسؤول البلديات والعمل الانمائي في جبل لبنان والشمال، ومسؤولاً في جهاد البناء، لذلك كنت من أوائل الذين التقوا بالمهندس حسام، ولفترة طويلة نشأت خلالها علاقة شخصية بيننا. ولقد أحب المهندس حسام هذه المنطقة كثيراً.
كنت أرافقه عند تجواله في تلك المنطقة، وفي إحدى تلك الجولات، مررنا بطريق قرية "جنة" وصولا الى قرية "قرقريا". كانت الطريق صعبة وضيقة، ومشرفة على وادٍ سحيق، طريقاً ترابية شُقت يدوياً بالمعاول، وكنا في سيارة صغيرة، لكنها رباعية الدفع، قادرة على سلوك الطرق الجبلية، وكانت تشتد ضيقاً في بعض مسالكها، وهناك توقفنا حين شاهدنا أمامنا حمارا يقف في منتصف الطريق بلا مبالاة، كانت الدواب هي الوسيلة الوحيدة لأهل هذه البلدة النائية، لأن من الخطر استعمال السيارة في مثل هذا الطريق الضيق المشرف على الوادي السحيق، لم يتحرك الحمار حين اقتربنا منه، اطلقنا نفير السيارة وانتظرنا، ولم ينفعنا لا الانتظار ولا بوق السيارة العالي، بقي الحمار واقفاً وكأن الامر لا يعنيه، كانت السيارة بحجم الطريق، وابوابها على طرف الوادي، وملاصقة للحافة في الجهة الأخرى، رفض المهندس أن ينزل أحدنا حرصاً علينا وقال وهو يفتح الباب:
- لا ينزل أحد ... أنا أنزل.
نزل بحذر حتى إذا وصل الى الحمار، أمسك بطرف الحبل، وجره ليبعده، فإذا بالحمار يجفل من هذه الحركة وكأنها اعتداء شخصي، ركض امام المهندس، لكن المهندس بقي ممسكاً بالحبل، خوفاً على الحمار من أن تنزلق قدمه ويسقط في الوادي خلال محاولته الهرب، سار معه مسافة 60م تقريباً وهو يحاول تهدئته، حتى نجح في ذلك، ثم جره الى فسحة في جانب الطريق.
ضحكنا كثيراً ونحن نتابع تقدمنا، وضحك معنا ضحكته المميزة، تلك الضحكة المشبعة بالبراءة والطهر، ضحكة كأنها تخرج من القلب دون أن تمر بأي مكان قبل ذلك، سكت بعد ذلك وهو ينظر الى الطريق، هز رأسه وبدا على ملامحه الأسف الشديد وهو يقول:
- هذه الطريق مش معقوله.
ثم وجدنا متسعاً تحت دالية عنب امتدت الى الطريق، وكان وقت الصلاة قد حان، والمهندس حسام لا يؤخر صلاته ولا لدقائق، ترجلنا من السيارة وتوجهنا الى فسحة الدار الذي خرجت منه تلك الدالية، لنصلي هناك، وإذا بالمهندس حسام يقول:
- أنا اصلي هون على الطريق.. تحت العريشي هون.
أصر على الصلاة هناك فوق التراب، أراد أن يقول شيئاً بتلك الصلاة على الطريق، أن تكون صلاته خطوة لرفع مشقاتها عن سالكيها.
من الأشجار مباشرة جمعت لنا صاحبة المنزل تفاحاً وعنباً، غسلها من عين ماء قريبة، أخذ واحدة وجلس يقضمها وهو ينظر سارحاً ببصره لجمال الطبيعة في ذلك المكان، ثم التفت إليّ وقال:
- سجل، أن هذا الطريق مسؤولية حسام، وإن كانت غير موجودة في الاتفاقات، أو تمويلها صعباً، لكن سأنفذها، وان كانت اخر عمل في حياتي. وكانت فعلاً من آخر أعماله في لبنان.