شاي إيراني
حين بدأت العمل مع الهيئة الايرانية، بصفتي مديرة لمكتب الهيئة في بلدة معروب الجنوبيّة، لم أكن قد التقيت بعد برئيس الهيئة المهندس الحاج حسام خوش نويس، كنت أسمع عنه فقط، وكان اسمه يتردد في جنبات المكتب على لسان المهندسين والمتعهدين.
في خضم العمل المتزاحم، والنشاط الدؤوب للهيئة الايرانية بعد حرب تموز، كان هو الاسم الأكثر تداولاً باعتباره رئيس الهيئة، فتشكلت في ذهني صورة له بدأت تتضح ملامحها بالتدريج، حتى استقرت على صورة لمدير حازم شديد العبوس، سريع التوتر، عصبي المزاج، محاطٍ بالهيبة، فهو رئيس لهذا الكم الكبير جداً من العمل والعاملين. تلك هي الصورة التي انطبعت في ذهني، يعززها ما أسمعه من حديث عن دقته التي يراقب بها سير العمل، وخوف العاملين معه من الإهمال أو التسويف، يراعون الدقة في التنفيذ، وسمعت أنه قد يهدم العمل المنجز ان لم يكن كما يريد.
كنت أنتظر بكثير من الرهبة لقاء هذا الرجل الصارم الجاد الذي يحسب له الجميع ألف حساب، وأنا التي تعاملت سابقاً مع الكثير من المدراء، وكانوا جميعاً حازمين، عابسي الوجوه، ويجعلون بينهم وبين بقية العاملين حاجزاً أو حاجباً. وهذا طبعهم ربما لضرورة تفرضها مقتضيات الادارة، والذين كانوا جميعاً أقل شأنا منه، فكيف به هو رئيس الهيئة الايرانية، وممثل الجمهورية في هذا العمل الضخم، والعدد الهائل من العاملين والمتعاملين.
لن انسى ذلك اليوم الذي دخل فيه إلى مكتبي، كان قد سبقت دخوله حركة غير عاديه، وارتبك المحيط كله، كان الخوف والرهبة يتسرّبان إليّ من كل مكان، لا سيما أنه لقائي الأول به، لقد جفَّ فمي وأنا أستمع الى كلمات الترحيب به، والتي تصلني وهي تقترب من الباب.
وقفت مذهولة وأنا انظر اليه، وإلى تلك الابتسامة المغمَّسة بأدب متواضع، والتي يلاقي بها الجميع، الجميع بلا استثناء، وهو يتمتم بعبارات وتحيّات تعبر عن أدبه وتواضعه، وأنا أقف هناك مذهولة، أشاهد ما يجري أمامي، ويكاد صوتي يخرج وأنا احدث نفسي وأردد:
- مستحيل، هذا هو.. مستحيل!!!
لم يكن هناك مجال للشك.، هذا هو الحاج حسام خوش نويس، وتداعت تلك الصورة القديمة، وتكسرت أجزاؤها، ثم اختفت تماما مع الوقت.
كان المكتب يومها يتدفق بالحياة المصاحبة لحضوره، بل كان يتدفق بالفرح المنبعث من ابتسامته، تلك الابتسامة المغمَّسة بالأدب المتواضع، وحضوره القوي وهو يشارك الجميع بالحديث، ويَطْمئنُّ عن أحوالهم، وعن أحوال عائلاتهم، بلغته العربية الركيكة، أمام كل هذا كنت قد هدأت تماماً بعد الانفعال الذي سبق قدومه.
وفي ذلك اليوم كان أول حوار بيني وبينه حين قلت له:
- شو بتشرب حضرتك؟
ابتسم تلك الابتسامة المغمسة بالأدب وقال:
- حضرتك عندكن شاي؟
ثم ضحك وقال: شاي إيراني مش لبناني (أي خفيف).
حين يحدث الرجال لا تفارق عيناه وجه محدثه، وحين يحدث النساء لا تمكث نظراته، ينظر الى زاوية أخرى، أو إلى الارض، لشدة أدبه وإيمانه. ما رأيت ولا أظنني سوف أرى شخصية كشخصية المهندس حسام.
لقد اشعرني بأبوته منذ الأيام الأولى للعمل معه، أبوة مصحوبة بالتواضع والأدب الرفيع. في زيارتي لمكتب بيروت قام هو بإحضار كوب من الشاي وهو يقول: أنت ضيفتنا اليوم في مكتب بيروت، أنت تقومين بإكرامي في مكتبك.. إكرامك واجب عليَّ في مكتبي.
وسألني عن أخباري، وعن عائلتي فرداً فرداً، وكأنه قريب لهم، ثم سألني عن العاملين، وقد خص بالذكر الحاجة عاملة التنظيفات في المكتب، يسأل عن أحوالها بالتفصيل، عن صحتها، وإن كانت لديها أية مشكلة، وهل هي راضية عن العمل؟، هل تشكو من شيء؟.
كان قد طلب مني ترجمة بعض العروض الى اللغة الإنكليزيّة، وكنت أستطيع متابعة شاشة الكومبيوتر من مكاني حيث أجلس، لكنه ترك مكتبه وأجلسني مكانه لتسهيل عملي.
كنت أردد في نفسي، من أي طينة صنع هذا الرجل، وكيف يمكن للإنسان أن يكون هكذا؟