مصداقية إيران
في مارون الراس كان لقاؤنا الأوّل، فوق القمة المطلة على حدود فلسطين المحتلة، حيث تقرر إنشاء حديقة، وقد كلفت من قبل الإخوة أن أكون مهندس هذه الحديقة بعد عامين من حرب تموز.
لقائي بالمهندس حسام كان في عطلة نهاية الأسبوع، ولم يكن قد مضى سوى شهرين أو ثلاثة أشهر على وضع حجر الأساس للحديقة من قبل رئيس بلدية طهران، ولم تكن ايران قد بدأت بالعمل، وتلك الفترة كانت في رأيه طويلة جداً، وإن هذا الانتظار كان خطأ يجب تلافيه. كان اعتراضه على ذلك التأخير واضحاً، وامتعاضه منه بادياً، مما أثار استغرابي، فهو وقت مقبول جداً لمعرفتي بالالتزامات، وخاصة الرسمية منها، وقت لا يُعترض عليه عادة عندنا، ولا يُعترض عادة حتى على الأطول منه، فهو وقت تبرره التحضيرات والمعاملات. ففي الكثير من المشاريع هنا، وحتى المستعجل منها يظل هناك وقتٌ مشروعٌ بين وضع حجر الاساس والبدء بالتنفيذ. لكن للمهندس رأي مختلف، فالأمر عنده يتعلق بالجمهورية الإسلامية ومصداقيتها، فهي جمهورية تمثل الإسلام في صدقه ووفائه، كان يعترض على هذا التأخير بانفعال. يقول أنه قد يكون هذا مقبولاً هنا في لبنان، أو في دول عديدة، ولكنه غير مقبول مع الجمهورية الإسلامية في ايران.
كان يرى أن سمعة ايران على المحك، لا يريد أن يظن الناس أنها مثل بقية الدول، تقوم بالإعلان عن العمل أمام وسائل الاعلام، حيث تصنع من أجله ضجة كبيرة، ثم تهمله بعد ذلك، ليصبح الظهور الإعلامي هو المطلوب، وكأن الهدف هو الترويج والدعاية الإعلامية فقط. أما هو فلا يريد ذلك، يريد للناس ان تعرف دون تأخير أن ايران تختلف عن بقية الدول، فدولة الإسلام هذه لا يقول رجالها ما لا يفعلون.
لهذه الأسباب كان يستعجلني للبدء بالتنفيذ وعلى الفور، جال بعينيه في المكان، ثم نظر إليّ وقال بحسم: - متى تبدأ؟
فسألته إن كان هناك دراسة، أو مخطط، أو مصور، أو حتى خرائط للمشروع، فأجاب بالنفي، ثم أخذ بيدي وقمنا في جولة على المشروع، كان يتحرك مستطلعا بحماس بين الصخور والحجارة، يقف على أماكن مرتفعة ويجول ببصره على كل المكان. ثم جلسنا نتحدث حول ما يمكن أن تكون عليه الحديقة، وكيف يمكننا تقسيمها إلى أجزاء، شعرت حينها بقدرته الذهنية العالية، وخبرته اللافتة كمهندس، وبعد هذا الحديث قام وهو يقول:
- علينا ان نبدأ سريعاً في العمل.
فقلت وقد دبّ فيّ الحماس بتأثيرٍ منه: - يمكننا أن نبدأ يوم الأربعاء المقبل.. بعد ثلاثة ايام.
وقال باستنكار: - لماذا بعد ثلاثة ايام؟ - لأنني مرتبط بعمل في بيروت.
فاستنكر معترضاً: - لا يا مهندس. فقلت مستغرباً: - اليوم هو الأحد.. يومان فقط ليست مشكلة.. آتي يوم الثلاثاء من بيروت ونبدأ صباح الأربعاء.
- لا هو مشكل.. يومين لماذا؟
وتحدث عن سمعة الجمهورية، وعن الناس الذين شاهدوا السيارة، وقال: - رآنا الناس ولا يرون عمل؟
ولم أستطع الا التجاوب أمام حماسته واندفاعه، كان عليّ أن أرتب أموري على عجل، وأؤجّل مايمكن تأجيله، وقلت متعاطفاً: - لا عليك، سوف نبدأ العمل يوم الثلاثاء.. سأرسل الآليات والجرّافات ونبدأ بالجرف في المشروع إن شاء الله.
وفيما أنا في بيروت يوم الاثنين، فاجأني وهو يتصل بي قائلاً: - هل بدأتم بالعمل؟
فقلت له مستغرباً: - يا مهندس لقد اتفقنا الثلاثاء!
- مهندس، لازم شغل، أنا مستعجل.. لازم شغل.. إيران مش جيد توضع حجر أساس فقط.. لازم شغل. كان يعلم أن موعدنا غدا”، وكأنه لم يستطع، أو أرادني أن أعرف مدى استعجاله. فابتسمت وقلت متعاطفاً: - لا عليك اليوم ننزل الآليات وغدا نبدأ باكراً.
هكذا كان لقائي الأول به، وعرفت كم هو مندفع للعمل منذ اليوم الأول، يريد أن يحافظ على مصداقية إيران، ويثبت أنها إن قالت شيئاً فعلته، دون تسويف أو إبطاء، خصوصاً أن اللبنانيين قد اعتادوا على غير ذلك.