هو العشق حتما
منذ الايام الأولى للعمل في حديقة مارون الرأس وأنا أرى هذا الشيء اللافت والغريب يظهر جلياً في حركته، في ملامح وجهه، في عينيه وفي حديثه، شيء لا يمكن تفسيره إلا بالعشق، مشاعره تلك هي مشاعر عاشق، عشق لا يحاول المهندس حسام إخفائه، وكأنه أكبر من أن يدارى، ليس عشقا عادياً، بل هو عشق مجبول بالقداسة، عشق مقدس لهذه الأرض، وهذا المكان العالي، المشرف على المناطق المحتلة، مكان المقاومة، له قدسيّة المقاومة في عقل المهندس حسام ووجدانه، مقاومة لا يكف عن التحدث عنها في كل مناسبة. كأنه يرى رجالها يجوبون المكان، في الموقع، وحوله، وبين الصخور.
يمسح الموقع بعيني عاشق، يقف فوق الأماكن العالية، ينظر إلى الجهة المقابلة، إلى المناطق المحتلة ويقول لي: - انظر يا مهندس.
ينظر إلى المستعمرات القريبة بأسى سرعان ما تغلبه شعلة من التحدي فيقول: - علينا أن نفعل في المقابل.
وأنا أتساءل ماذا يعني؟ ما الذي يريده بالضبط؟ فيقول والإصرار واضح في لكنته العربية الثقيلة:
- هناك يوجد شجر، هنا ما في شجر.. أنا أريد أخضر.. كثير أخضر.. هناك أخضر، هنا يجب أن يكون أخضر.. الناس تشوف أخضر.. كل حجر وصخر ما في.. شيلو كلو!
كان يحزّ في نفسه أن يرى هذه الأرض جرداء، يريد أن يرفع عنها الإهمال، يريد أن يعطيها ما تستحقه، يعز عليه أن تكون جرداء كلها حجارة، ولا يوجد فيها شجر، هذا الموقع المتقدم للمقاومة في مارون الراس، يريد له أن يكون جنة، هذا المكان العزيز على قلبه. يردد من أجله مراراً:
- أرض المقاومة.. تستحق أرض المقاومة.
هذا الرجل لم يكن يقوم بعمله كما يقوم به سواه، لم يكن كوظيفة يؤدّيها، كل ما يصدر عنه يشي بغير ذلك، فهو لم يكن يأتي إلى الحديقة دون أفكار، في كل مرة يأتيها حاملاً فكرة جديدة، في تدفق متواصل لم أستطع مجاراته فيها، لست أنا وحدي الذي لم أستطع مجاراة أفكاره، كأن تلك الأفكار أكبر من الإمكانات، أكبر من الوقت ومن المكان، كانت أفكاره تلك بحجم عشقه وحبه.
لقد تخطى الإمكانات المرصودة، وتجاوز كثيراً المساحة المتفق عليها عند بدء العمل، فالمساحة المقررة للحديقة هي 12000 متر مربع، ومعه تجاوزت هذا الرقم بكثير حتى قاربت ال 50000 متر مربع. فالمساحة الأولية ما كانت لتتسع لأفكاره وحبّه، فهو كلما زار الحديقة نبتت في ذهنه الخلاق أفكارٌ جديدةٌ. وتبقى الحديقة في رأيه تستحق أكثر. ولم يلتزم بما هو في الخرائط والرسوم والدراسات، وكان يبدع جديداً في كل مرة.
كان الخروج عن الخرائط يتكرّر، وبعضه كان كبيراً، حتى جاءني مرّة بما لم يخطر على بال، وقال بحماس: - نريد بركة مياه كبيرة.
وبدأ يشرح لي مقصده بحماسه المتدفق، يريد بركة كبيرة تتجمع فيها مياه الأمطار، يريد أن يستثمر كل مياه الأمطار المتساقطة على الحديقة، يريد لتلك المياه ان تتجه جميعها إلى البركة، نظر إليّ وأنا أستمع إليه مدهوشاً بأفكاره هذه، فقال: - أنظر إلى هناك.
نظرت إلى حيث أشار في الأراضي المحتلة، رأيت بركة ماء كبيرة، فتابع يقول: - عندهم بركة ماء، عندنا لازم بركة ماء.. في كل مستعمرة بركة مياه مطر. هناك أخضر، هنا لازم أخضر. هناك طرقات، هنا طرقات.
يحدثني باندفاع وأنا أنحدر وإياه إلى أسفل الحديقة حيث حدّد موقع البركة وقال: - هنا لازم انت تعمل بركة.. كل مياه شتاء هنا.
وافقته وأنا في ذهول وسعادة وقلت: - حسناً، ولكن كيف؟ تجميع كل المياه ليس أمراً سهلاً.
- أعمل نهر من فوق إلى تحت.
وهذا ما فعلناه، أنشأنا مجرى نهر مع روافده بطول 80 متراً، ولم ننسَ الأشجار، فقد زرعنا على طول ضفافه أشجار الصفصاف، وأصبح يسمع في كل الحديقة خرير المياه في الشتاء مثل نهر كبير.
مع أفكار المهندس حسام المدفوعة من هذا الحب الكبير، بدأ المشروع يتطوّر ثم يكبر. وبدأ الناس بالتوافد إلى الحديقة، وخصوصاً في ايام الآحاد وأيام العطل، بالرغم من العوائق، فالحديقة كانت ما تزال قيد التنفيذ، وقبل أن تنتهي بكثير.
عندما يأتي ويرى الناس تبدو عليه سعادة غامرة، ويطالبنا بتسهيل أمورهم، وتلبية حاجاتهم، والإسراع في العمل، كأنهم زواره وضيوفه، كأنهم جاءوا إلى منزله هو. يهتمّ براحتهم وسعادتهم كما يهتم أي مضياف كريم، يجلس معهم بتواضع فريد لم ارَ مثله، يأكل معهم طعامهم، ويشرب الشاي، يسألهم عن الحديقة، ويصغي إلى حديثهم عنها بشغف، ويطلب منهم اقتراحات، وأفكاراً لتطويرها وكيف تكون أجمل.
يريد بكل جوارحه أن تكون جنة، فهي عنده تستحق ذلك، عاشق هو يردد مراراً: “ارض المقاومة تستحق”.