ربط الأرض بالسماء
منذ أن بدأنا العمل في حديقة مارون الرأس، وهو يتردد إلى موقعها بشكل دوري، يتابع كل شاردة وواردة، ويدقق بكلِّ التفاصيل، بذهن منفتح، وأفكار خلاقة، ونشاط عجيب، يسأل ويتابع حتى عبر الهاتف، يتبادل الأفكار والتصورات معي حول ما يمكن ان يفعله للحديقة، حتى بدا لي أنه لا ينام ويقضي الليل بطوله ينتج الأفكار والتصورات لهذه الحديقة.
بعد أن أنجزنا “المصوَّر” الأول للحديقة، تحدثنا عن تفاصيله. وقد كانت الحديقة في تلك المرحلة عبارة عن 12000 متر مربع، وكان التصور هو أن نقوم بشق كورنيش، وأن نضع في الحديقة بعض الخيم العائلية، لجذب العائلات اليها، بحيث يكون لكل عائلة خيمة مستقلة، فيها ما تحتاجه من مقاعد، وطاولة، وموقد للشواء، ومغسلة، أيضاً، وأراد أن يكون سقفها مغطى بعريشة خضراء.
كنا ملزمين بتقسيم الخيم إلى قسمين، قسم أعلى من القسم الآخر، في تقسيم تفرضه طبيعة الأرض هناك، وكان هذا ما اتفقنا عليه ونحن في موقع الحديقة. فإذا به يتصل بي في اليوم التالي ويطلب إليّ أن ألقاه في الحديقة، فقلت له: - أنا في الحديقة يا مهندس.
فقال على عجل: - أنا آت الآن.
فقلت في نفسي: إن هذا الرجل عجيب، ينام وهو يفكر في الحديقة. لقد اتفقنا وأنا أنفّذ ما اتفقنا عليه، فما هو جديده هذه المرة؟ هذا الرجل لا يكفّ عن انتاج الأفكار الجديدة. وانتظرته بشوقٍ لأسمع هذا الجديد.
عندما وصل، طرح عليّ فكرة للخيم العائلية بحماس بالغ: - نحن نعمل فوق (واشار إلى المكان الاوسع) 19 خيمة، على عدد أحرف بسم الله الرحمن الرحيم.. وفي الاسفل 14 خيمة، على عدد المعصومين مع الرّسول والسيدة الزهراء عليهم السلام.
ابتسم وهو ينظر إلى الأفق، ثم قال: - 19 و 14 مجموع 33 يوم عدد ايام حرب تموز.
وقفت مذهولاً وأنا أتابع حديثه، وكأنه شاهد دهشتي فقال: - القرآن والرّسول وأهل بيته طريقنا إلى الله أليس كذلك؟ وإذا جمعناهم يكون ناتج انتصار.. السيد حسن نصر الله قال: “حرب تموز نصر إلهي”.
لقد أذهلتني فكرته وأذهلني حديثه، وصرت أحدّث نفسي عن روحانية هذا الرجل، لو لم يكن روحانياً ما أنتج مثل هذه الأفكار، لقد جمع الإبداع والفن مع سمو الروح. نحن معشر المهندسين نفكر بالتصميم، بجمالياته وبالإمكانات العملية، اين نضع الخيم، وأين نزرع الشجر، وهو يفكر كيف يربط الحديقة بالله والمقاومة والعقيدة؟!
حين اقترحت عليه أن نبني مسجداً لزوار الحديقة، قال من فوره بلا إبطاء: - نعم، نعم. مسجد قبة القدس.
تبادر إلى ذهنه ان يبني القبة كقبة الصخرة في المسجد الأقصى، إنه يرى فلسطين من هنا، ويرى القدس، أيضاً، ثم قال: - نحتاج موقع جيد.
أراد أن يكون موقع المسجد في وسط الحديقة، وفي مكان مشرف، فهو يريد للزائر أينما تواجد في الحديقة أن يرى المسجد، فهو يقول: - لازم كل الناس يشوف مسجد القدس.
وطلب ان تتوزع الطرقات ليكون المسجد هو الرابط لكل الحديقة. فقلت في سري: “ان هذا الرجل القادم من إيران لم يأتِ لإعمار الأرض فقط، بل جاء لإعمار الروح ايضاً، جاء ليربط الارض بالسماء”..