أطفال يلعبون مقاومة
كنا إذا فقدناه وسمعنا صوت الصغار لا نتردد بالذهاب نحو جهة الصوت، وكنا نجده بالفعل، يتحدث إليهم ويلاطفهم، وكنا نجده أحيانا يلعب معهم كرة القدم.
أراد أن يكون لهم نصيب كبير في الحديقة، فصنع لهم مكاناً واسعاً فيه كل ما يريدون من أراجيح ومنزلقات وسواها.
ثم جاءني في أحد الأيام طارحا فكرة جديدة، وحدثني عنها بحماس قائلا: - نريد ملعباً جديداً للأطفال.
- لديهم ملعب جيد!
- لا يا مهندس.. ملعب جهادي.
واندفع يشرح لي وجهة نظره: - لازم يكون عندهم ثقافة مقاومة.. لعب أولاد صغار هو مقاومة واسرائيل.. مثل عسكر وحراميه.. اسرائيلي هو حرامي.. الأطفال يلعبوا ويهجموا على موقع اسرائيلي.
كان يريدني أن أبني موقعاً عسكرياً مع خنادق ودشم وممرات تحت الارض؟!
خلال التنفيذ كان المهندس حسام في غاية الحماس، وهو يدلنا أين سيبني الموقع، ودشمه، وأنفاقه، واختار لذلك أمكنة تقابل شريط الحدود، ثم اختار للعلم الإسرائيلي موقعاً فريداً، ظل يقترب به حتى واجه تماماً قوات الاحتلال المتمركزة في الجانب المقابل. بحيث يرى الإسرائيليون ما سيحدث خلال اللعب، وحين سألته لماذا؟ قال:
- لازم جندي اسرائيلي يشوف أطفال يلعبون مقاومة.. اقتحام موقع.. يسقط العلم. جندي اسرائيلي ينهزم نفسياً.. يرى بعينه.. هذه حرب نفسيّة يا مهندس.
ثم تابع وهو يقول بإصرار: - لازم كل أطفال تجي تقوص ع إسرائيلي.
وتم ذلك بإتقان جيد، بنينا الموقع بما يشابه الحقيقة تماماً، وجهزنا بالإضافة إلى بناء الموقع كل المستلزمات المطلوبة، وكأنه موقع حقيقي مجهز بكل ما يحتاجه في محاكاة لحرب حقيقية، من لباس، وألعاب على شكل عتاد عسكري، حتى الصوتيات وضعت بشكل مدروس.
وكان المهندس حسام هو أول من نزل إلى الموقع بعد افتتاحه، ولبس لباساً عسكرياً خاصاً، وحين انطلقت اللعبة، وسمعت القوات الاسرائيلية لأول مرة الأصوات الصادرة من صوتيات الملعب من غارات، وأصوات طائرات، وقصف، واطلاق نار، اعتقدوا ان هناك شيئاً حقيقياً يحدث على الحدود، مما جعلهم يستنفرون كل قواتهم، وقد تجمهروا ليشاهدوا سقوط العلم الإسرائيلي من مرتفع الموقع.
كان هذا الملعب من أكثر الأعمال التي جذبت الناس إلى الحديقة، كانوا يأتون بكثافة مع أطفالهم الذين استهواهم كثيرا هذا الملعب، ولم يقتصر الأمر على الصغار، بل استهوى الكبار الذين ازدحم بهم المكان كمتفرجين، يشجعون الصغار ويشتعلون حماساً.
كان تجاوب الناس مع الملعب الجهادي أكثر بكثير مما توقعنا، وصممنا من اجل الكبار مدرجاً يستقبل بين 2000 أو 2500 شخصاً، واستعملنا فيه أشياء من الطبيعة المتوفرة هناك، مما زاده جمالاً، واستعملنا الصخور لتنفيذ المدرجات، فصار هناك متسع لجلوس الناس الذين يتزايد إقبالهم على الملعب الجهادي يوماً بعد يوم. أصبح الناس يتوافدون ويملؤون المدرجات، يشجعون أطفالهم، وبعض العوائل جلست لتشجع كل الأطفال المشاركين، وأصبحتَ تسمع الناس تصرخ: "الله أكبر"، ويشتد حماسهم، وتعلوا الهتافات، والأولاد يلعبون برغبة وبحماس شديدين.
كنت أنظر إلى هذا الاقبال مذهولاً، وأنا اسأل نفسي: هل كان المهندس حسام يتوقع كل هذا؟ حين أصر وتغلب على الكثير من الصعاب من أجل هذا الملعب، كأنه كان يرى كل هذا قبل حدوثه.
كان عملاً ناجحاً بامتياز، كنا سعداء بهذه النتيجة الباهرة، أنظر إليه والى فرحه وهو يشاهد كل هذا، يشاهد الأثر الذي أراده يتجلى واضحاً في الناس وفي جنود الاحتلال، هنا ثقافة المقاومة كما يقول، ولدى الاحتلال هزيمة نفسية. ما كنت أرى في كل ذاك سوى توفيق من الله لرجل مخلص.
هذا الأمر كسر حاجز الخوف بشكل كبير، خصوصاً بعد ما عاشه الأطفال في حرب تموز. لأن الحرب تؤثر على نفسيات الأطفال كما كان يقول. كان فخوراً جداً، ويشعر أنه حقق شيئاً مهماً لهم، وأسعده ذلك.
وبعد فترة وجيزة، عندما رأى كثافة الإقبال على الملعب قال: - لازم تعديل ملعب جهادي.
فقلت له وأنا سعيد ومنفتح على كل ما يريد: - ماذا تريدنا أن نفعل؟
- لازم إضافة أبراج عالية ورابيل وحبائل..
- هذا تفعله ايران في يوم القدس.
- نعمل مثله صغير في مارون.. ما مشكل.
- ولكن يا مهندس هذه حديقة.
- ما مشكل، كل شيء يخوف إسرائيل يجب أن نفعله.
- مهندس، غداً عند أول معركة تقصف الحديقة ولا يبقى منها شيء.
فهز رأسه بلا مبالاة وقال: - حديقة مش عمرها سنة؟.. هكذا أدت وظيفتها عملت مقاومة، صنعت ناس لا تخاف إسرائيل، وتتحدى إسرائيل، وتأتي إلى الشريط الحدودي وتقول الموت لإسرائيل... إسرائيل تهدّم ونحن ايران ندعم ونعمر.. المهم أن الناس يكون ايمانها أكثر بالمقاومة.
فشرعنا بتعديل الملعب، وأضفنا أبراجاً، وحبالاً لأجل الصعود، وسلالم. لقد كانت فكرة الملعب الجهادي وكل تفاصيله، عملا مميز بحق، لقد جذب أناساً كثيرين، في مرحلة متقدمة.