img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

سياحة‭ ‬ذات‭ ‬مغزى


اراد‭ ‬المهندس‭ ‬الشهيد‭ ‬لحديقة‭ ‬مارون‭ ‬الراس‭ ‬أن‭ ‬تجهَّز‭ ‬بأجمل‭ ‬ما‭ ‬يستطيع،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أهل‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬قاومت‭ ‬وصمدت‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الاحتلال‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة،‭ ‬لأنه‭ ‬يراها‭ ‬متنفساً‭ ‬لهم‭ ‬خصوصاً‭ ‬بعد‭ ‬عدوان‭ ‬تموز‭. ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬سعادته‭ ‬هو‭ ‬توافد‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬الحديقة‭ ‬قبل‭ ‬إكمال‭ ‬بنائها،‭ ‬وكان‭ ‬يسألني‭ ‬عن‭ ‬الإحصائيات،‭ ‬وعدد‭ ‬الوافدين‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬يتزايد‭ ‬عددهم‭ ‬بشكل‭ ‬لافت‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭. ‬والشيء‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يلفت‭ ‬انتباهه‭ ‬أكثر‭ ‬هو‭ ‬نوعيّة‭ ‬الناس،‭ ‬فالحديقة‭ ‬لم‭ ‬تستقطب‭ ‬شريحة‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬فقط،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬بقعة‭ ‬جغرافية‭ ‬واحدة،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬ديانة،‭ ‬ومذهب‭ ‬واحد،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يفد‭ ‬إليها‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬مناطق‭ ‬بعيدة،‭ ‬يأتون‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬طرابلس‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬الشمال،‭ ‬ومن‭ ‬الجبل،‭ ‬ومن‭ ‬بيروت،‭ ‬من‭ ‬الشرقية‭ ‬ومن‭ ‬الغربية،‭ ‬ومن‭ ‬كل‭ ‬الطوائف‭ ‬يأتون‭ ‬مجموعات‭ ‬ووفوداً،‭ ‬دروزاً‭ ‬ومسيحيين‭. ‬ولم‭ ‬يقتصر‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬على‭ ‬اللبنانيين،‭ ‬لقد‭ ‬تنوع‭ ‬واستقطبت‭ ‬الحديقة‭ ‬زوارا‭ ‬من‭ ‬جنسيات‭ ‬مختلفة،‭ ‬وخاصة‭ ‬من‭ ‬الإخوة‭ ‬الفلسطينيين‭.‬
كان‭ ‬شديد‭ ‬التأثر‭ ‬بكثافة‭ ‬حضور‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬إلى‭ ‬الحديقة،‭ ‬يراقبهم‭ ‬بتعاطف‭ ‬شديد‭ ‬وهم‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬الاراضي‭ ‬المحتلة،‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬معهم‭ ‬اليها،‭ ‬بكل‭ ‬ذلك‭ ‬الحب‭ ‬الذين‭ ‬يكنه‭ ‬لها،‭ ‬أراد‭ ‬للناس،‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬ان‭ ‬تحب‭ ‬فلسطين‭ ‬كما‭ ‬يحبها‭ ‬هو،‭ ‬أن‭ ‬يعشقها‭ ‬هؤلاء‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬انتمائهم‭ ‬كما‭ ‬يعشقها‭ ‬هو،‭ ‬تلك‭ ‬الحبيبة‭ ‬الأسيرة،‭ ‬الجميلة،‭ ‬المظلومة،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭. ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬تنوعهم‭ ‬سعيدا،‭ ‬وفي‭ ‬رأيه‭ ‬أنهم‭ ‬يصبحون‭ ‬واحداً‭ ‬هنا‭. ‬أراد‭ ‬لهم‭ ‬أن‭ ‬يتوحدوا‭ ‬على‭ ‬حبِّ‭ ‬فلسطين‭. ‬
في‭ ‬الفترات‭ ‬الأخيرة‭ ‬قبل‭ ‬الاستشهاد،‭ ‬كان‭ ‬حلمه‭ ‬أن‭ ‬ينفذ‭ "‬مشهديّة‭" ‬كبيرة،‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬بانوراما‭ ‬تصور‭ ‬وترسم‭ ‬كامل‭ ‬فلسطين‭ ‬أمام‭ ‬المشاهد،‭ ‬وكان‭ ‬يقول‭ ‬لي‭:‬ ‭ - ‬أنت‭ ‬تراها‭ ‬بالعين‭ ‬المجردة‭ ‬بعيدة‭ ‬وصغيرة،‭ ‬لكن‭ ‬عندما‭ ‬ترسمها‭ ‬أمامك‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬كبيرة،‭ ‬شيء‭ ‬مختلف‭.. ‬ويمكن‭ ‬لأحد‭ ‬المرشدين‭ ‬السياحيين‭ ‬تولي‭ ‬مهمة‭ ‬الشرح‭.. ‬يشرح‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬قرية‭ ‬وكل‭ ‬مدينة‭.. ‬صحيح‭ ‬أنك‭ ‬ترى‭ ‬فلسطين‭ ‬أمامك‭ ‬الآن،‭ ‬لكن‭ ‬عندما‭ ‬ترسمها‭ ‬كمشهدية‭ ‬هذا‭ ‬يقرب‭ ‬الصورة‭ ‬لديك‭.. ‬فعندما‭ ‬يقترب‭ ‬المشهد‭ ‬يصبح‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬القلب‭.. ‬وكلَّما‭ ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬القلب‭ ‬كلما‭ ‬عشقتها‭ ‬أكثر‭.‬
لم‭ ‬يمهله‭ ‬الوقت‭ ‬لتحقيق‭ ‬ذلك،‭ ‬ولكنه‭ ‬حقق‭ ‬الكثير‭ ‬للناس‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬مارون‭ ‬الراس،‭ ‬جعلها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حديقة‭ ‬بكثير،‭ ‬لقد‭ ‬استغرق‭ ‬العمل‭ ‬بها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات،‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬الآن،‭ ‬بدأنا‭ ‬بـ12000‭ ‬م2‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬مقرراً،‭ ‬لكنه‭ ‬تجاوز‭ ‬هذا‭ ‬الرقم‭ ‬بكثير،‭ ‬حبه‭ ‬لهذا‭ ‬المكان‭ ‬ولزواره‭ ‬جعل‭ ‬المساحة‭ ‬المستثمرة‭ ‬تزداد‭ ‬أضعافاً،‭ ‬حتى‭ ‬انتهت‭ ‬الحديقة‭ ‬بـ48400‭ ‬م2،‭ ‬مع‭ ‬شبكة‭ ‬طرقات‭ ‬وإنارة،‭ ‬وأدخلنا‭ ‬الطاقة‭ ‬البديلة‭ ‬للإنارة،‭ ‬بعضها‭ ‬بواسطة‭ ‬الهواء،‭ ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬بواسطة‭ ‬الطاقة‭ ‬الشمسية،‭ ‬وأنشأنا‭ ‬مسرحاً‭ ‬لطلاب‭ ‬المدارس،‭ ‬وخيماً‭ ‬إضافية‭ ‬زيادة‭ ‬على‭ ‬14‭ ‬و19‭ ‬خيمة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬أنشأنا‭ ‬28‭ ‬خيمة‭ ‬كخيم‭ ‬عائلية،‭ ‬وخيم‭ ‬للمجموعات‭ ‬الكبيرة‭ ‬كطلاب‭ ‬المدارس،‭ ‬خيم‭ ‬متصلة‭ ‬ببعضها،‭ ‬مع‭ ‬حمامات،‭ ‬وأنشأنا‭ ‬الملعب‭ ‬الكبير‭ "‬90x40‭" ‬مع‭ ‬مدرج‭ ‬واسع،‭ ‬مسيج‭ ‬ومفروش‭ ‬بالعشب‭ ‬على‭ ‬خاصرة‭ ‬الجبل،‭ ‬بجانبه‭ ‬مبنى‭ ‬إداري‭.‬هناك‭ ‬ايضاً‭ ‬ملعب‭ ‬بجانب‭ ‬الكورنيش‭ ‬للرياضة،‭ ‬وقيادة‭ ‬الدراجات‭ ‬والركض،‭ ‬وهناك‭ ‬أيضاً‭ ‬ملعب‭ ‬للأطفال‭ ‬مع‭ ‬أراجيح‭ ‬ومنزلقات،‭ ‬مساحته‭ ‬حوالي‭ ‬2000‭ ‬متر‭ ‬مربع،‭ ‬وهناك‭ ‬ايضاً‭ ‬مطعمٌ‭ ‬كبيرٌ‭ ‬مساحته‭ ‬حوالي‭ ‬550‭ ‬متراً‭ ‬مربعاً،‭ ‬وعلى‭ ‬ظهر‭ ‬المطعم‭ "‬تراس‭" ‬كبير،‭ ‬وهناك‭ ‬مبنى‭ ‬خاص‭ ‬للتشريفات،‭ ‬لاستقبال‭ ‬الشخصيات،‭ ‬ومبنى‭ ‬مطل‭ ‬على‭ ‬الحديقة‭ ‬مع‭ ‬واجهات‭ ‬زجاجية‭ ‬ترى‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬مشهد‭ ‬فلسطين،‭ ‬وكل‭ ‬عناصر‭ ‬الحديقة،‭ ‬وهناك‭ ‬ايضاً‭ ‬ملعبٌ‭ ‬للخيل،‭ ‬وله‭ ‬مدرج‭ ‬يستقبل‭ ‬400‭ ‬شخص،‭ ‬وهناك‭ ‬كافيتريا‭.‬
لقد‭ ‬بذل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الجهود‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحديقة،‭ ‬وكأن‭ ‬الهيئة‭ ‬الإيرانية‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬سوى‭ ‬هذه‭ ‬الحديقة،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬نائب‭ ‬وزير‭ ‬خارجية‭ ‬ايران،‭ ‬وفي‭ ‬معرض‭ ‬مديحه‭ ‬لحديقة‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬مارون‭ ‬الراس‭ ‬قال‭: ‬
‭ - ‬كل‭ ‬الذي‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬ايران‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬وكأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لولا‭ ‬حديقة‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬مارون،‭ ‬لأنها‭ ‬أشعرت‭ ‬العدو‭ ‬بالخطر،‭ ‬أكبر‭ ‬إنجاز‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬هو‭ ‬هذه‭ ‬الحديقة،‭ ‬لأنها‭ ‬أكبر‭ ‬تحدٍ‭ ‬للعدو‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬سياحي،‭ ‬دمج‭ ‬بين‭ ‬المقاومة،‭ ‬والسياحة،‭ ‬وهزيمة‭ ‬العدو‭ ‬أمام‭ ‬عينيه‭.‬
في‭ ‬الحديقة‭ ‬العائلات‭ ‬تشوي‭ ‬اللحم،‭ ‬والأولاد‭ ‬يلعبون،‭ ‬والإسرائيلي‭ ‬متأهب‭ ‬وخائف‭.‬