طريق فلسطين
كنت أقف معه في مكان عال في حديقة مارون الراس، مكان يشرف تماماً على الشريط الحدودي بيننا وبين فلسطين المحتلة، ووقفتنا كانت في المكان الأقرب، حيث ينعطف الشريط باتجاه مرتفع الحديقة، وتحتنا مباشرة بدت شجرة الكينا القديمة، تلك الشجرة التي زرعت قرب مقام لأحد الشهداء الذين استشهدوا قديماً، ومسجد صغير. نظر المهندس حسام إلى المسجد ثم إلى الشريط الحدودي، ثم نظر إليّ كأنه اكتشف أمرا قد غاب عن ذهنه سابقاً، وقال:
- علينا شق طريق من هنا إلى حدود فلسطين.
لم أفهم جدوى هذه الطريق، فمن المفترض أن يكون للجهد المبذول ما يبرره، أي يجب أن تكون موصولة بما قبلها وما بعدها، ولكني لم أجد مبرراً لهذا الطريق، فقلت مستغرباً:
- لماذا نشق هذا الطريق الصعب؟.. ما هي الحاجة إليه؟
لم يكن يخطر في ذهني أبداً ما يفكر فيه، لقد أذهلني حين قال:
- حتى يصير الناس عندن شغلة سهلة دخول فلسطين.. عندما تفتح طريق كل الناس تمشي عليه.. نسميه طريق العودة.. من عند الشهيد لعند فلسطين.
لم أجد أحداً يفكر بهذه الطريقة، يريد أن يصنع رمزاً، يحاكي رغبة ثابتة في الوجدان، وهي العودة إلى فلسطين، يريد للناس أن لا تنسى العودة إلى فلسطين، كما لا ينساها هو، يريد لتلك الرغبة المقدسة أن تكون حاضرة بشيء ملموس هنا، بصورة حقيقية تمتد على الأرض.
وعملنا حوالي 20 يوماً، لشق هذه الطريق، (طريق العودة). صحيح أنها طريق ترابية، لكن المهندس أصر أن تكون نظيفة من الأحجار والأشواك، مرصوفة بعناية، وقال: - حتى يشعر الناس أن طريق فلسطين طريق سهلة ليست مليئة بالأشواك والحجارة.
يريد طريقاً تُسلك سيراً على الأقدام، طريق “آدومية” كما يقال بالعامية عندنا، وكان يريد للكبار والصغار أن يمشوا على هذه الطريق، دون معاناة، يريد للعودة أن تترسخ في عقولهم الباطنة، حاضرة في اللاوعي، عصيّة على النسيان.
شقت الطريق، وظل يتابع تفاصيلها حتى تمت كما أراد، وفتحت تلك الطريق الرمزية، (طريق العودة)، وسلكها الناس متأثرين، وقلوبهم تخفق، وهم يصلون إلى اقرب نقطة من الحدود.
وقد شهدت هذه الطريق مناسبات عديدة فيما بعد. وسلكها عدد كبير جداً من الزائرين ومن الوفود، وأضحت محطة من أهم محطات الحديقة.
ومن أبرز تلك المناسبات كانت مناسبة ذكرى النكبة، عندما استشهد الفلسطينيون على الحدود، كان الكثير من الناس يسيرون على هذه الطريق، حشد كبير من الناس، بكل أعمارهم، نساء ورجال وأطفال، ذكَّرنا هذا المشهد بمشهد يوم التحرير، حين زحف الناس عائدين إلى قراهم.
كان الحشد في ذكرى النكبة كبيراً، والمشهد مؤثراً، اغرورقت أمامه العيون بالدموع، والمهندس حسام ينظر إليهم متأثرا وهم يزحفون على الطريق التي شقها، ليضعوا علماً على الشريط.