أبٌ بلا نظير
لم يكن عددنا قليلاً نحن العاملون مع المهندس حسام، شاءت ظروفنا، وحسن حظنا، وابتسمت لنا أقدارنا إذ جمعتنا معه، تعلمنا منه الكثير، لم تكن دروساً شفهية أو مكتوبة، كانت عملاً صامتاً أبلغ من أي كلام، منهج حياة، تلك الاخلاق الرفيعة، وذاك الاهتمام والعطف الذي أحاطنا به، ذاك وحده كان مدرسة في التعامل، فبالرغم من مشاغله الكثيرة، كان يرعانا فرداً فرداً، ويبدي اهتماماً شخصياً بكل فرد منا.
إذا ما غاب موظف سأل عنه، فإن كان مريضاً زاره حاملاً هدية، متفقداً حاجته، وإن كانت لديه مشكلة أعانه في حلها، كان حريصا على حل مشاكل الإخوة سريعاً، ودون انتظار، وكأنها مشكلته هو. يسارع بالاتصال بهذا وذاك، حتى إذا استطاع المساعدة يهدأ، وكأن تلك المشكلة كانت حملاً ثقيلاً على ظهره، وقبل أن نلجأ إليه، هو من كان يبادر بالسؤال، وأنا واحد من الذين عايشوه، لقد سمعت ورأيت كل ذلك منه، فعلى عدد لقاءاتي به، كان عدد أسئلته عن عائلتي، أهلي، وأولادي، ليس سؤالاً عابراً وسريعاً، بل يسألني عن أحوالهم بالتفصيل، بأسمائهم واحداً واحداً.
في اليومين الأخيرين من الرحلة التي أخذنا فيها إلى ايران، أردنا أن ننزل إلى السوق، لكي نشتري حاجاتنا والهدايا قبل أن نغادر، ومن الطبيعي أن تحتاج جولة التسوق إلى خمس ساعات أو أكثر، وعندما عدنا إلى الفندق، وجدت المهندس قد أخذ ابنتي إلى المستشفى نتيجة عارض صحي أصابها خلال تواجدي في السوق، ورافقته زوجتي، لقد استقل سيارة أجرة ليأخذهما– هو يستطع أن يستدعي مئة سيارة بمكالمة هاتفية باعتبار موقعه ومكانته– لحقت بهم على جناح السرعة، ووجدته هناك، كان يتكلم مع الدكتور وكأنه أبوها، يتكلم ويتحرك بكل لهفة الاب، لقد اتم لها الفحص الطبي، وأخذ لها التحاليل المخبرية، طلبوا منا الرجوع عند الساعة الخامسة لأخذ نتائج التحاليل، وانتظرت في بهو الفندق، حتى يحين الوقت المحدد لموعد النتائج، وعندما أصبحت الساعة الخامسة إلا ربعاً، قمت لأذهب، فرأيته ينزل من على الدرج على عجل، ويقول للحاضرين:
- أنا ذاهب مشوار صغير ولن أتأخر.
- مهندس ...الى اين؟
أصر الحاضرون على سؤاله، فأجاب في عجلة: - أنا ذاهب لجلب نتيجة التحاليل.
تقدمت وأنا اقول: - لا يا مهندس.. أنا أذهب.
لكنه لم يوافق، وأخذنا في الجدال، لم أستطع أن أثنيه عن رايه، حتى وصلنا إلى تسوية مقبولة حين قال: - أنت مصر على الذهاب.. نذهب معاً.
قد يكون هذا غريباً على اي أحد، ولكنه ليس غريباً على المهندس حسام.
في أحد الايام كنا عائدين وحدنا معاً من البقاع إلى بيروت، وهو كان يعلم أني أريد أن أوصله، ثم أعود لأصعد الى البقاع لتفقد عائلتي في القرية، ثم أعود إلى بيروت على عجل لضيق الوقت، كان يكفيني مجرد المرور والاطمئنان عليهم، فإذا بالمهندس حسام يقول: - سأمر معك عند عائلتك فأنا أريد رؤيتهم.
طبعا هو لم يكن بحاجة إلى رؤيتهم، ولكن قال ذلك بهدف تشجيعي على المرور، دون أن يعذبني بايصاله ثم العودة، وليتيح لي وقتاً اضافياً، وجهداً اقل، وذلك بتوفير مسافة الطريق، ما أريد قوله أن المهندس لم يكن مضطرا لأن يمر معي، وهو كان قد تحمل عناء ومشقة طوال النهار.
فكر بي ونسي نفسه، ولم يكتفِ بذلك، بل زاد عليه من أدبه، والخلق الرفيع، فحين وصلنا لم يجلس وينتظرني، لم يكن يريد أن يشعرني بهذا، قام يلاعب الأولاد كثيراً، وتحدث معهم، يريدني أن أنساه، ولم يطالبني بالرحيل، بل تركني على راحتي، وظل يلاعب الأطفال، وهو الذي يجيد ذلك، حتى بادرت أنا وطلبت الانصراف.
كان رؤوفا حنونا على الجميع، رغم اهتمامه بالعمل والدقة والحرص الذين يبديهما تجاه العمل، وهذا معروف عنه، رغم الحسم الذي يطلبه مثل هذا الإتقان، حتى مع الأخطاء التي لم يكن يتسامح معها. لقد أعد أحدهم يوماً كتابا وأخطأ في تدوين بعض الأرقام عن إهمال واضح، فكانت نتيجتها أن حصلت مشكلة بينه وبين مدير المالية، فما كان من الأخير الا أن طرده، كلنا يعلم أن هذا الموظف أخطأ بلا شك، لكن المهندس حسام لم يرضَ بردة الفعل هذه، أعتبرها مبالغاً فيها، ولم يكتفِ بإلغاء قرار الفصل، بل ذهب لزيارة الموظف في منزله، واعتذر منه على حصول طرده.
لقد كان يستطيع الاتصال به، وكان ذلك كافياً ليكون المطرود سعيداً، لكنه لم يفعل، بل ذهب اليه، وطيب خاطره، وفي الوقت عينه أوضح لهذا الشخص، أنه لا يستطيع أن يتنازل له عن هذا الخطأ الذي قام به، وأن المعالجة ستكون في أماكنها وأطرها فقط.
ولم يكن ليكتفي باهتمامه شخصياً بكل فرد منا، بل كان يجمعنا معاً، يقارب بيننا، يسعى إلى حل خلافاتنا مع بعضنا، يصنع منا عائلة واحدة، وكان الأحب إليه أن يجمعنا على مائدة واحدة، إن في المطاعم، أو في أماكن العمل، كان يقدم لنا الطعام بنفسه، يطعمنا بيده لو استطاع، ويصنع جواً من الإلفة والمرح.
كان أباً، بل أباً مثالياً قل نظيره، أبا لعائلة جمعها بنفسه، وألَّف بين قلوبها، وعلّمها الكثير. ونحن إلى الآن كلما اجتمع بعضنا، تحسرنا، وخرجت الآهات الحبيسة من الصدور، ودمعت العيون شوقا اليه.