إنه منهم
عندما بدأنا نناقش الملف الاعلامي في حديقة ايران في مارون الراس، اقترح المهندس حسام أن نسمي كل خيمة على اسم شهيد من شهداء قرية مارون، لكننا كلبنانيين لم نجد الأمر مناسباً، ناقشناه في ذلك، وأعطيناه مثالاً، بأنه إذا سأل أحدنا عن الآخر : اين أنت؟ فسيقول: أنا جالس في خيمة الشهيد فلان. وفي الخيمة أراكيل ولهو، وما شابه ذلك، قد يترك هذا انطباعاً سلبياً لا يقبل به عوائل هؤلاء الشهداء، فاقتنع وتراجع عن الفكرة فوراً، فهو يريد تخليد الشهداء، ولا يريد إزعاج ذويهم، فذاك خط أحمر عنده، ولكنه أصرَّ أن يفعل شيئاً للشهداء في تلك الحديقة التي كانت عزيزة عليه.
ثم اقترحنا عليه تسمية الخيم باسم المحافظات الإيرانية، ولكنه لم يقتنع، فالجهاد والمجاهدون هم دائماً في رأس اهتماماته، وأوعزنا إلى من حوله بأن يضغطوا عليه ويقنعوه، حتى وافق أخيراً، ولكن موافقته كانت مشروطة، والشرط هو أن يحمل كل "تراس" لوحة تعريفية عن كل محافظة، ويظهر فيها بوضوح، أسماء شهدائها، وجرحاها، ومعوقيها من المجاهدين.
كان هذا هاجسه الدائم، حتى عندما أردنا أن نضع النصب التذكارية في الحديقة، وبالرغم من كونها حديقة ايران، لم يقبل بأن يراعي فقط القومية الايرانية، بل كان يريد تخليد ذكرى الأعلام الحديثة للإسلام، أو أعلام الحقبة الأخيرة، كالشهيد بهشتي، والشهيد محمد باقر الصدر، والسيد موسى الصدر، والإمام الخميني.
لطالما كنت أتساءل عن هذا الحب والشغف الذي يبديه للمجاهدين والشهداء، حتى إذا نظرت إلى ماضيه عرفت الإجابة، فهذا الرجل منهم، له تاريخ طويل وحافل في كل ساحات الجهاد في إيران، قبل انتصار الثورة وبعدها، حبه للمجاهدين نابع من كونه منهم، كما يحب المرء نفسه، إنهم هو، وهم ما كان وما يريد أن يكون، لم يبتعد، ولم يستطع الانسلاخ عن كل هذا الذي هو فيه، وما شغفه بالشهداء وحبه لآثارهم إلا انعكاس لما هو فيه.
حين وصلت إلى هذه النتيجة داهمني حزن كبير، شعرت بمرارة انقبض لها قلبي، رايت نتيجة ما كنت أراه من قبل، خيّم عليّ حزن عميق وأنا أردد واثقاً بيني وبين نفسي:
- لن يبقى هذا الرجل الفذ طويلاً.. إنه منهم.
عرفت بعد ذلك رجلاً اسمه إحسان رجب، وهو مصور معتمد عند الإمام القائد، أعدّ كتابا مصوراً مهمّاً عن الحرب الإيرانية العراقية، ويعتبر من أجمل الكتب. وأعدّ فيلماً مصوراً عن لبنان. كان يخبرني إحسان هذه القصة وهو يبكي، حدثني أنه عندما طلب إليه المهندس حسام أن يأخذ له صورة، قام إحسان رجب بالإعداد للصورة، ولكنه توقف، ورفض أن يصور، فسأله المهندس حسام عن السبب، فأجاب احسان:
- إن آلة تصويري هذه عندما أمارس عملي معها تنتابني مشاعر مختلفة، فإن شعرت بشغف شديد مع الشخص الذي أصوره، فإنه يستشهد، وأنا اشعر بهذا الشغف معك.
ضحك المهندس حسام وقال:
- لا تبالي.. أنا أريدك أن تصورني.