سر التعلق الغريب
لا أدري ماذا أسمي هذه العلاقة الغربية في قوتها بين المهندس حسام وبين الشهداء والمجاهدين، هل هي نقطة ضعف فيه، أم هي نقطة قوة، لكنها بلا شك لم تكن علاقة عادية، أو قريبة من المألوف، حبه للمجاهدين والشهداء قد ملك قلبه وجوارحه، حتى بات هذا الحب يظهر في كل حركاته وسكناته، فهو دائم الذكر لهم، كأن عطرهم ينتشر في الهواء الذي يتنفس، وكأنه في حيرة يكاد يعجز فيها عن التعبير، يراهم بغير العيون التي نراهم نحن بها، هم في باله أينما حل، يعبر عن هذا التعلق الغريب بالكلام وبالفعل حيثما تسنى له ذلك.
مذ تعرفت عليه وأنا اتساءل، لم تكن معرفتي به معرفة وقت قصير، لقد تعرفت على الحاج حسام بعد حرب تموز 2006، وبعيد وقف إطلاق النار، عندما جاءت الهيئة الايرانية لإعادة اعمار لبنان، وكلفت أنا من قبل المجلس التنفيذي بمتابعة إعادة الإعمار، وكان من الطبيعي أن نلتقي مبكراً وتستمر الجلسات واللقاءات الميدانية حتى استشهاده. طوال تلك الفترة وأنا أتساءل عن السر، سر هذا التعلق الغريب.
حيث يتنسَّم عطر المقاومة والجهاد تتغيّر ملامحه، كما تتغيّر ملامح عاشق متيم إذا جاء ذكر الحبيبة، أو شاهد أثراً من آثارها، وهو يسأل ويستقصي ويتحرك بهذا الاتجاه. إخلاصه لحزب الله وتقديسه لمقاومته، والمحبة الخاصة جداً لسماحة السيد حسن تنبع من هذا الشغف الذي لا مثيل له للجهاد والمجاهدين، فهو يعتقد أن هذا القائد هو نعمة إلهية، ويعتبر أن عمله في لبنان هو فرصة ليعمل ضمن حزب الله، وكان أول لقاء قام به عندما أتى إلى لبنان هو لقاء سماحة السيد، حيث شرح له المهام التي سيقوم بها في لبنان، وأخذ موافقة مبدئية منه. والسيد حسن هو من طرح عليه تغيير اسمه، واقترح سماحة السيد أن يطل على الناس باسم آخر، غير حسن شاطري، وافق المهندس حسن شاطري على الفور، وتم اختيار اسم "حسام خوش نويس" الاسم الذي عرف به حتى استشهاده.
يحاول دائماً الاطمئنان على جهوزية المقاومة، يريد ان يعرف بشكل موثوق، إذا ما حصل أي عدوان على حزب الله أنه قادر على المواجهة كمقاومة وجمهور.
في إحدى المرات كنا في جولة على مشروع “الناقورة - مرجعيون”، وهو من المشاريع الكبرى التي عمل عليها، وعندما وصلنا إلى قرية "العزيّة" وهي منطقة جميلة تقع على جبل فيه أشجار، وتطل على البحر، وكان النهار جميلاً، تنهد الحاج حسام الصعداء وقال: هذه أجمل بقاع الأرض! فقلت له يا حاج حسام من يعرف ايران يعرف أن فيها ما هو أجمل من هذه المنطقة، ومن يعرف لبنان يعرف أن فيه أجمل من هذه المنطقة. إنها منطقة جميلة صحيح، لكن هناك مناطق كثيرة أجمل منها، وتنهدك هذا لا ينم عن جمال المنطقة كشيء مادي بل لقربها من فلسطين، تجلى جمال المكان لأنه مكان للمقاومة والجهاد. كان هذا واضحاً فمشاعره التي خرجت غير مرتبطة بجغرافيا المنطقة.
كان يرى بغير العيون التي نرى فيها، ويشعر بشكل مختلف في كل حواسه، للجهاد وحده يخفق قلبه بشده، وكأن قلبه أصبح حكراً عليه، لا مساحه فيه لغير الجهاد والمجاهدين، للشهداء وآثارهم، في فعله وردة فعله، في كلامه وصمته، وحديث ملامحه وعينيه.
أما تخليد ذكرى الشهداء فذاك دأبه، فمن السهل الملاحظة لكل من يمر على الطرقات التي عبّدت، أو أعيد تأهيلها، أو تلك التي وسّعت، أو شقت من جديد، سيجد أنها جميعاً تحمل أسماء الشهداء.
لا يوجد طلب لهم فكر في رفضه أو التغاضي عنه، ولا حتى التقليل منه أو اختصاره، كل تلك الطلبات كان يوقعها، ويحولها إلى التنفيذ، دون إبطاء. وإذا اعترض أحدهم أو قال له "ولكن.. " كان يقف مستغرباً هذا الاعتراض ويقول:
- ولكنهم أهل الشهيد... هم بركته التي تركها لنا..
ثم اكتشفت السر، وأصبح الأمر واضحاً بعد ذلك عندي، فهذا الرجل ما زال هناك، متعلقاً، مرتبطاً بحبل من الطهر القدسي، عينيه وروحه، قلبه وجوارحه كلها.
اكتشفت السر عند معرفتي بسيرته القديمة، أنه حسن شاطري، عنصر من عناصر الثورة الإسلامية في ايران، منذ بدايات تأسيسها، مذ كان فتى لم يصل الى العقد الثاني من عمره بعد، ثم انخراطه في حرسها الثوري بعد ذلك، ومشاركاته الجهادية في جبهات القتال في الفترات الشديدة العصيبة، في كردستان التي تعدّ من أصعب الجبهات. في زرادشت وسواها، هناك في الخطوط الأمامية للجهاد ترك خلفه حيث كان، الكثير من المواقف والبطولات، وعدداً من رفاقه الشهداء، هناك كان قريباً من السماء، قريباً إلى الدرجة التي اخترقت قلبه ووجدانه، وهناك تعلق وارتبط بالسماء، بكل تلك الوجوه التي لم يمسح عنها غبار الجهاد، الوجوه التي لبس ملامحها العشق للجمال المطلق.
لم يستطع الانسلاخ عنها، ولا هو أراد ذلك، بقي متعلقاً بذلك الحبل المقدس، لا يريد لنفسه فكاكاً، وظل يرنو اليه وان اختلف المكان، يبحث عن عطره في المجاهدين، في الشهداء وآثارهم، حتى إذا استبد به الشوق دعا باكياً راجياً للقاء قريب.
في الأشهر الأخيرة بدا ذلك واضحاً فيه، بل شديد الوضوح، كأنه أصبح في مكان آخر، وكان الموضوع السوري وقتها قد تملك في وجدانه، وبدا ان تطوراً جديداً قد احتل ملامحه وحركته وابتسامته، كمن هو على وشك الانتقال، ليس انتقالاً من لبنان الى سوريا، كما ليس من ايران الى لبنان، انتقال ليس في مكان على الارض، انتقال الى مكان مختلف، لا يعرفه إلا أمثاله وحدهم. كنا نفكر أن لقاء العمل هذا سيتبعه لقاء عمل آخر، لكن شيئاً في ملامح وجهه لم يكن كذلك، ولا سيما في اللقاء الاخير. استشرناه في بعض الامور وأعطى رأيه، وقال لنا أنه سيذهب إلى سوريا، وعند عودته يكون قد تم تحضير الأوراق لزوم التسلم والتسليم، لكنه كان على عجل، فقلبه قد ملَّ شوقه والانتظار.