img

وَجَاءَ‭ ‬مِنْ‭ ‬أَقْصَىَ‭ ‬المَدِيْنَةِ‭ ‬رَجُلٌ‭ ‬يَسْعَىَ

لتحميل الكتاب

مفهوم‭ ‬الرحمة


لم‭ ‬يكن‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬متدينا‭ ‬بالمعنى‭ ‬السطحي‭ ‬للكلمة،‭ ‬شخصيته‭ ‬هي‭ ‬شخصية‭ ‬تتسم‭ ‬بالتقوى،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬كان‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬الكمال‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وقد‭ ‬برز‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مواقف‭ ‬عدة‭ ‬كنت‭ ‬شاهداً‭ ‬عليها‭.‬
كان‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬يتفاجأ‭ ‬دائماً‭ ‬بالمنهجية‭ ‬المتبعة‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬خلال‭ ‬تنفيذ‭ ‬المشاريع،‭ ‬وفي‭ ‬مشاريع‭ ‬الطرقات‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬ينظر‭ ‬بامتعاض‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬العقليّة‭ ‬التي‭ ‬تربى‭ ‬عليها‭ ‬الناس،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬بعضهم‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬المتدينين،‭ ‬ويقومون‭ ‬بعمل‭ ‬غير‭ ‬متقن،‭ ‬كان‭ ‬يغضب‭ ‬ممن‭ ‬لا‭ ‬يؤدي‭ ‬عمله‭ ‬كما‭ ‬يجب،‭ ‬يعترض‭ ‬بشدة‭ ‬على‭ ‬الاعمال‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يراها‭ ‬من‭ ‬المتعهد‭ ‬اللبناني،‭ ‬فهو‭ ‬يقوم‭ ‬بتعبيد‭ ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الأول،‭ ‬ثم‭ ‬يقوم‭ ‬بتعبيدها‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الثاني،‭ ‬وهكذا،‭ ‬لان‭ ‬العمل‭ ‬فيها‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متقنا،‭ ‬ولم‭ ‬يراع‭ ‬الشروط‭ ‬المطلوبة،‭ ‬فيخرج‭ ‬العمل‭ ‬ضعيفاً‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬البقاء،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يقبل‭ ‬بأي‭ ‬مبررات‭ ‬تساق‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التقصير،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تتعلق‭ ‬في‭ ‬ضيق‭ ‬الوقت‭ ‬المتاح،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬قلة‭ ‬المال‭ ‬المرصود‭ ‬لهذه‭ ‬المهمة،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬أصحاب‭ ‬متعهدي‭ ‬هذه‭ ‬المشاريع‭ ‬وهم‭ ‬يدافعون‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم،‭ ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬إتقان‭ ‬العمل‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬التدبير،‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬الإخلاص،‭ ‬كان‭ ‬يردد‭ ‬دائماً‭ ‬للعاملين‭ ‬معه‭: ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬عملاً‭ ‬فأتقنه‭.‬
وإذا‭ ‬شاهد‭ ‬عملاً‭ ‬جيداً‭ ‬قال‭ ‬لصاحبه‭: ‬
‭ - ‬أن‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬ستنزل‭ ‬عليك‭.‬
في‭ ‬رأيه‭ ‬أن‭ ‬الرحمة‭ ‬التي‭ ‬يستنزلها‭ ‬الإتقان‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬مقتصرة‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الفردي‭ ‬فقط،‭ ‬فحين‭ ‬تصبح‭ ‬الأعمال‭ ‬أفضل،‭ ‬وأكثر‭ ‬إتقاناً،‭ ‬فالرحمة‭ ‬ستنزل‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬ككل،‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬شارك‭ ‬بهذا‭ ‬الاتقان،‭ ‬وإن‭ ‬بشكل‭ ‬بسيط،‭ ‬المجتمع‭ ‬اللبناني،‭ ‬أو‭ ‬المتبرع‭ ‬الايراني،‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬مساهم‭ ‬آخر‭. ‬كان‭ ‬المهندس‭ ‬حسام‭ ‬إذا‭ ‬شاهد‭ ‬عملاً‭ ‬غير‭ ‬متقن‭ ‬يتأسف‭ ‬بشدة‭ ‬ويقول‭ ‬لأصحاب‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭:‬
‭ - ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬رحمة‭ ‬أبداً
فيفهم‭ ‬صاحب‭ ‬العمل‭ ‬أن‭ ‬عمله‭ ‬غير‭ ‬متقن،‭ ‬وكان‭ ‬يخاطبهم‭ ‬ويقول‭:‬
‭ - ‬أنت‭ ‬تقوم‭ ‬بعمل‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬رحمة‭ ‬وتهدر‭ ‬حياتك‭..‬
كثيراً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يحدث‭ ‬المتعهدين‭ ‬والعاملين‭ ‬معه‭ ‬عن‭ ‬هذا،‭ ‬وكنت‭ ‬أترجم‭ ‬لهم‭ ‬ما‭ ‬يقول،‭ ‬كان‭ ‬يحثهم‭ ‬دائما‭ ‬على‭ ‬الاتقان،‭ ‬ويربطه‭ ‬بالرحمة،‭ ‬وبكل‭ ‬تواضعه‭ ‬وأدبه‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬لهم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭:‬
‭ - ‬لست‭ ‬بواعظ‭ ‬ديني،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬أسلوب‭ ‬حياة‭.. ‬وإذا‭ ‬كنا‭ ‬نريد‭ ‬لرحمة‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬تنزل‭ ‬علينا،‭ ‬علينا‭ ‬إذا‭ ‬أن‭ ‬نتقن‭ ‬العمل‭ ‬بشكل‭ ‬فردي‭ ‬وجماعي‭. ‬
فهو‭ ‬لا‭ ‬يرضى‭ ‬بالمبررات،‭ ‬وكان‭ ‬يقول‭ ‬لمن‭ ‬لم‭ ‬يتقن‭ ‬عمله‭:‬
‭ - ‬إنك‭ ‬إذا‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬تتقن‭ ‬العمل،‭ ‬لكن‭ ‬المبلغ‭ ‬المرصود‭ ‬لك‭ ‬من‭ ‬الحكومة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الهيئة‭ ‬لا‭ ‬يعجبك،‭ ‬تعال‭ ‬واستشرني‭ ‬يا‭ ‬أخي،‭ ‬أو‭ ‬اعتبرها‭ ‬صدقة‭ ‬جارية‭ ‬عنك‭ ‬وعن‭ ‬أسرتك،‭ ‬عن‭ ‬حياتك،‭ ‬فهذا‭ ‬الطريق‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يخدم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬وطالما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬فهو‭ ‬صدقة‭ ‬جارية‭.‬
ومن‭ ‬سعيه‭ ‬لطلب‭ ‬الرحمة،‭ ‬عندما‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬كان‭ ‬يستمع‭ ‬للصغير‭ ‬والكبير،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬جاء‭ ‬طفل‭ ‬صغير،‭ ‬ويريد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬له‭ ‬كلمة،‭ ‬كان‭ ‬يصغي‭ ‬وبانتباه‭ ‬شديد،‭ ‬ويقول‭ ‬لي‭: ‬ ‭ - ‬استمع‭ ‬اليه،‭ ‬لعل‭ ‬هناك‭ ‬سراً‭ ‬أو‭ ‬أمراً‭ ‬ما‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يخبرنا‭ ‬به،‭ ‬ويكون‭ ‬فيه‭ ‬فائدة‭. ‬أستفيد‭ ‬منه‭.. ‬أو‭ ‬أتعلم‭ ‬منه‭.‬
حتى‭ ‬عندما‭ ‬نكون‭ ‬في‭ ‬جمع‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬يطلب‭ ‬منهم‭ ‬التكلم‭ ‬واحداً‭ ‬واحداً،‭ ‬ويطلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أصغي‭ ‬وأسجل‭ ‬ما‭ ‬يقولون،‭ ‬ويبرر‭ ‬ذلك‭ ‬قائلاً‭:‬
‭ - ‬مهما‭ ‬نكون‭ ‬قد‭ ‬درسنا‭ ‬المشروع،‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬نقوم‭ ‬به،‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬ثغرات‭ ‬لم‭ ‬نلتفت‭ ‬إليها،‭ ‬أو‭ ‬أمراً‭ ‬لم‭ ‬نطلع‭ ‬عليه،‭ ‬لأن‭ ‬دورنا‭ ‬اكتشاف‭ ‬معاناة‭ ‬الناس،‭ ‬ووضع‭ ‬يدنا‭ ‬على‭ ‬جراحهم،‭ ‬وتضميدها‭ ‬لهم،‭ ‬فالجرح‭ ‬يعرفه‭ ‬المجروح‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يعرفه‭ ‬غيره،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬هم‭ ‬الجرحى،‭ ‬انزل‭ ‬إلى‭ ‬الأرض،‭ ‬واسمع‭ ‬منهم،‭ ‬وسجل‭ ‬ملاحظاتهم‭.‬