الزوجة والابن ولبنان
في تلك الفترة التي استقدم فيها المهندس حسام عائلته إلى لبنان، كنت أتردد معه إلى البيت كثيراً، لفتت انتباهي تلك العلاقة المميزة بين المهندس حسام وزجته، فهي لا تشبه العلاقة بين الأزواج كما أعرفها من خلال تجاربي وعلاقاتي، إذا قارنتها بكل العلاقات الزوجية الناجحة التي كنت أعرفها، كنت أرى أن علاقتهما تخطت ذلك، فبالإضافة للمودة الظاهرة بوضوح بينهما، كانت هناك علاقة احترام راقية جداً جداً، بشكل لا يمكن وصفه، كنت مبهورا بتلك العلاقة التي لفتت نظري في تفردها منذ اليوم الأول، كثير من الأحيان كنت أجالسهم لفترة طويلة، قد تمتد من الصباح إلى المساء ولمرات عديدة، ولم أسمع منه كلمة واحدة لا تتضمن هذا الاحترام والتقدير اللافت، حتى أنه كان يناديها سيدتي طوال الوقت. وهي التي تعامله بالطريقة نفسها ، كأن لا شائبة تشوب تلك العلاقة، لا فتور ولا عبوس. كثيراً ما كنت أسمعها تقول تلك الجمل الداعمة:
- الله يعطيك العافية.. أجرك عظيم.. أنت تجاهد بشكل صحيح.. هناك شيءٌ مطلوبُ منا معاً.. قل لي بماذا أستطيع مساعدتك.؟
وهو رغم أشغاله الكثيرة، والتي تحتم عليه الابتعاد عنهم لوقت طويل، إلا أنه يتابع أسرته ويعتمد على زوجته التي تلفت نظره لمواطن الضعف في سيرة حياته التي لا يستطيع رؤيتها بسبب غيابه، تذكره وتتابع. سمعت منهما مرة هذا الحوار:
- نريد أن نعمل هيئة مصغرة للمنزل.
- خير يا حجة..
- ابنك في سن المراهقة.. ولديه طاقات.. حركات شباب.. وأنا أخاف أن يذهب في طريق خطأ بسبب أصحاب السوء.
- وماذا تقترحين سيدتي.
- أن ترافقه أكثر.. أنت بطريقتك وأسلوبك الجميل تستطيع فعل الكثير.
بعد ذلك مباشرة حاول المهندس حسام التقرب إلى ولده بأسلوبه الخاص، وجعل منه صديقاً، ولما لم يكن لديه الكثير من الوقت، كان يحضره معه إلى عمله، ليرافقه أطول فترة ممكنة، ويقف على حاجاته، ويكون تحت نظره. ومن أجل ان يساعده على صرف طاقته، ويعلمه الجديد، أدخله في العمل، ثم أراد أن يجعله يعمل في المكتب، فاستأذن من الموظفين في المكتب قائلاً:
- أنا لا أستطيع أن أترك عملي.. أو أن أوفر من وقت عملي.. فهل تسمحوا لي بأن أجلب معي ابني إلى المكتب؟
ثم ذهب إلى الشباب الذين يعملون على الحاسوب وقال لهم:
- أن الشاب المنطلق عادة يريد شيئاً يملأ به فراغه.. فهل تسمح لي بأن أحضر ابني للعمل معكم؟ ولأنني لا أستطيع أن أتفرغ له، ولا أستطيع أن أسلّمه لأحد ليتابعه، لأن اللغة الموجودة في محيطه هي غير لغته، فهل لكم أن تعلموه بعض الأمور ليعمل.؟ أنا لا آتي به كي أوظفه.. ولا أريد أن أصرف له راتباً.. أنا أعطيه مصروفه.
ثم فيما بعد، أصبح يأخذه معه في جولات العمل غير المرهقة، دون أن يجبره على ذلك، ويعتمد على أساليب عديدة لترغيبه، ليكون هو من يريد الذهاب، كان يقول لي اسأله أن يرافقنا، لكي لا يظهر ان أباه هو من يريد ذلك، فيشعر بأنه ملزم، لم يكن يريد ان يشعر ولده بشعور الواجب، الذي يفسد عليه فرصة الاستمتاع والانفتاح على الفائدة، أو يشعر بأن ذلك مفروض عليه فرضاً، ولم يمر بعدها الكثير من الوقت حتى قال لأبيه أريد أن أتزوج، فتركه يسافر إلى ايران، وخطب فتاة ايرانية، ثم تزوجها بعد ذلك.
لقد أحب المهندس حسام لبنان حباً لطالما كان يعبّر عنه في الكثير من أحاديثه، وما أكثر الذين أحبوا المهندس حسام من اللبنانيين وتعلقوا به، كانوا يفكرون أنه لابد ستنتهي مهمته ويعود إلى ايران، وربما لن يعود إلى لبنان بعد ذلك، ويتأسفون لفراقه، ويقولون له غداً تذهب إلى ايران ولا يبقى منك شيء في لبنان، عرض عليه بعض الأخوة لشدة محبتهم له أن يرتبط بلبنان بشيء، منزل عمل، أو اي شيء يبقيه بعد انتهاء المهمة الموكلة إليه، ووجدوا فكرة كانت معقولة بالنسبة اليهم، وتفي بالغرض، فعرضوها عليه بإصرار وإلحاح طويل، والفكرة هي بان المهندس حسام قد زوج ابنه الأصغر في ايران، فطلبوا منه أن يعرض على ابنه الأكبر أن يتزوج من فتاة لبنانية، فأعرب المهندس حسام عن موافقته، وقال:
- هذا يسعدني جداً... ان شاء الله يحدث.
ودون أن يفرض عليه ذلك، وبمساعدة ومتابعة من الاخوة، وبعد زيارات عائلية عديدة، رغب الإبن بالزواج وصارح أباه، فسُرَّ المهندس حسام كثيراً بهذا الطلب، وأخبر الأخوة بذلك مظهراً فرحه واستبشاره قائلاً:
- رح صاهركم في لبنان.. طلبتم مني أن أُبقي شيئاً في لبنان وفعلت، لقد أبقيت ليس إعماراً وبناءً فقط، لقد أبقيت ابني ايضاً.
وبالفعل حصلت الخطبة، وقبل الزواج استشهد المهندس حسام.
بعد استشهاده ذهبنا لنعزي في ايران، والتقينا بزوجته الحاجة أم إحسان، كان حديثها لنا مؤثراً، جعلت الحاضرين يجدون صعوبة في حبس دموعهم، ثم قالت كلمة جوهريّة لن أنساها:
- يحزن الإنسان على فراق المهندس.. لكن ما يرضي الله سبحانه وتعالى يرضينا.. وتلك كانت رغبته، فهو الآن راض بهذا.. أجمل ما عندي هو أنني عندما أفكر أن المعصومين من الإمام علي(ع) إلى الامام العسكري قد قتلوا بيد أناس مثل هؤلاء تماماً من التكفيريين، والمحرفين للإسلام.والشهيد حسام اغتيل عندما كان قادماً من سوريا إلى لبنان على يد هؤلاء أنفسهم.. أن هذا يسرني كثيراً، وكيف لا يسرني أن الذين قتلوا زوجي هم الذين قتلوا الأئمة (ع)، لذا، لا بد أنه محشور مع ائمته(ع)...
مسحت دموعها ثم سكتت قليلاً وقالت:
- منذ اللحظة الأولى التي تزوجته فيها كنت أشعر أنني سأفقده يوماً كشهيد.. انتهت الحرب أو بدأت.. أنا كنت أنتظر هذا اليوم.