اغتيال الانسان
بعد حرب تموز التي دمرت ما لا يقل عن 300 مبنى في حارة حريك، كل مبنى مؤلف من ثمانية أو عشرة طوابق، وألحقت أضراراً جسيمة بحوالي 300 مبنى آخر، كما تضررت البنى التحتية، وصلت نسبة الأضرار إلى 90%.
قامت الدولة اللبنانية برفع الأنقاض فقط، وهذا ما تطلّب أشهراً عديدة من جرافات وشاحنات وعمال لرفع أنقاض المباني. لم يكن بإمكانها إعمار ما تهدَّم، وكان لا بد بعد انتهاء العدوان من البدء بإعادة الإعمار، وكان الكل يبحث عن وسيلة لإعمار المنطقة، فجاءت الهيئة الايرانية، ولا شيء أحسن من مجيئها، برئيسها الفريد والمميز. وكنت في هذا الوقت رئساً لبلدية حارة حريك، وتعرفت الى رئيس الهيئة الايرانية المهندس حسام بعد أشهر من انتهاء الحرب، إذ حضر برفقة السيد حسن جشي إلى مكتبي في البلديّة، وكان بحوزتهما أفكار عن إعادة بناء ما تهدم في حارة حريك، وتعددت اللقاءات بعد ذلك.
لم نكن نشعر نحن الاعضاء المسيحيين بالحاجز بين مسيحيتنا وإسلام المهندس حسام، كان الانسان فيه طاغياً وهاجاً، في إخلاصه، وصدقه، في تعاطفه، وأمانته، في حسن خلقه، وتواضعه. كانت بحوزته أفكار ذات قيمة عالية، أفكار فريدة لم يعرضها أحد من قبل، فالأفكار التي عرضها لإعادة البناء، والطريقة التي يفكر فيها، أي بناء حارة حريك جديدة، ليس فقط بناؤها كما كانت سابقاً، كان يريدها أفضل مما كانت بكثير، أقصد طريقة هندسة الأبنية، والطرقات، والبنى التحتية.
عندما يريد أن ينفذ اي مشروع كان يعود للبلدية ويأخذ رأيها، خططه كانت تحمل فكراً راقياً، وفناً رفيعاً من علم وثقافة، لذلك كانت تخرج بأفضل ما يكون، ويأخذ بما نقوله، وبما يفيد المصلحة العامة، كان همه الوحيد هو إعادة إعمار المنطقة، وإعادة الأهالي الى بيوتهم بأسرع وقت ممكن.
وكان يستمع إلى السكان، ويطلعهم على الخرائط في مشروع "وعد"، ويشرح لهم بصبر عجيب. كان متواضعاً جداً، يقابل كل من يريد مقابلته، يسمع راي كل شخص باحترام مهما كان هذا الراي.
أهالي حارة حريك المقيمين وغير المقيمين تعرفوا اليه خارج الحارة، كان يجتمع بهم في المجلس البلدي، وهم من المسيحيين والشيعة، يدوّن كل صغيرة وكبيرة من طلبات الأهالي، حيث يقوم الأهالي باختيار حتى البلاط ونوع الدهان، ولونه الذي يريدونه، في حال نقصت مساحة بيت حوالي نصف متر، كان صاحب المنزل يطلب تعويضاً فيُعطى ليخرج راضياً، وكان معه مهندسون لبنانيون، وايرانيون، يعاونونه لتحقيق هذه الأهداف.
قمنا بعدة جولات على أرض الميدان مع المهندس حسام، كان يناقش أفكاره مع الكل، مع المتعهد، ومع المهندس المشرف على المشاريع، وحتى مع العامل، وهو يتنقل بين الحارة والشياح والجنوب والبقاع، لم يكن ينام، كان يعمل ليل نهار، وهمه الوحيد إعادة إعمار لبنان، خاصة حارة حريك التي هي قلب المقاومة ونبضها، ونحن أسميناها عاصمة المقاومة.
لم يكن هناك اختلاف في وجهات النظر بيننا وبينه أبداً، فعندما يطرح فكرة لتنفيذ المشروع، ونقول له فكرة أخرى، كان يوافق على اقتراحنا ويقول:
- لم لا، يمكن أن نفعلها هكذا.
باختصار أقول: إن ما قامت به الهيئة الايرانية في حارة حريك بشخص المهندس حسام، وبمعاونة مشروع "وعد"، لم يحدث في التاريخ، إذ لا يمكن إنجاز مشروع بهذا الحجم بمثل تلك السرعة، وبهذا الاتقان.
لقد تركت بلدية حارة حريك كرئيس، لأنه لا يجوز أن يستمر شخص 12 سنة بمنصبه فالمداورة ضرورية، لكنني بقيت عضواً في البلدية . وما زلنا نحن الاعضاء نتذكر في كل مناسبة المهندس حسام، والاثر الذي تركه على الارض، وفي القلوب، نترحم على الشهيد حسام، آسفين على مثل هذه الخسارة، كنا نتمنى أن يبقى بيننا لكنها مشيئة الله.
قيل أن اغتياله هو اغتيال سياسي، والبعض قال أنه عسكري، وأنا أقول هو اغتيال ثقافي، اغتيال للفكر. ما أريد أن أقوله هنا: إنهم اغتالوا الانسان باغتيالهم هذا النموذج الانساني الذي قل نظيره. إنهم لا يريدون مثله في كل هذا الظلام الذي يحيط بأمتنا.
إني أفتقد المهندس حسام في حارة حريك، وباسم أهالي حارة حريك، من المسيحيين وسواهم، المقيمين منهم وغير المقيمين، كل الذين تعرفوا اليه، وعايشوا الانسان فيه، بكل رقيّه وايمانه، برأيه الصائب دائماً. قد أحبه الجميع، أشكره في غيابه وحضوره الذي سيبقى بيننا، في المجلس البلدي، نذكره دائماً بكل مخططات البلدية، نراه في شوارعها، وساحاتها، والأبنية، الكل يشكر حضوره والخدمات الجليلة، وسيظل في ذاكرتنا ما دمنا أحياء.