وعاء الذاكرة
كان قادماً في أيّامه الأولى إلى لبنان، وحرب تموز قد وضعت أوزارها حديثا. وكان لقاؤنا الأول شيّقًا، ومدهشًا بالنسبة لي، وموضوع اللقاء هو الحملة الإعلامية للهيئة الإيرانية لإعادة إعمار لبنان، والتي يرأسها هو شخصيًّا، وكان الحديث الطويل يشمل ما تتضمنه الحملة من تصميم الاعلانات بكافة أشكالها، وكيفيّة نشرها على الاراضي اللبنانية، وما إن بدأ هذا الرجل حديثه حتى أخذني إليه، لم يمضِ الكثير من الوقت لأشعر أنّني أمام شخصيّة استثنائيّةٍ بكلّ المقاييس، بدءاً من ابتسامته وأسلوبه في الحديث، وتوصيل الفكرة، مرورًا بطريقته في الاصغاء والفهم السريع لما تريد ان تقول، الى أفكاره الخلاَّقة المبدعة.
لا أظنُّ هذه الصفحات تكفي لأتحدَّث عن كلّ ما يجول في ذهني الآن عن هذه الشخصية المميّزة، لأن له الكثير عندي، ولكنّني من بستانه الشاسع سأقطف زهرة أو زهرتين، من أهم ما لفتني فيه، وانطبع في ذاكرتي، بل حفر حفرًا حتى بات عصيًّا على النسيان في ذاكرتي التي تعاني الازدحام.ومن تلك المشاهد المحفورة كانت واحدة من تلك الجولات التي قمنا بها معا، وهي رحلة الى الوادي العريق بالملاحم "وادي الحجير".
كان المهندس حسام يعرف الكثير عن حرب تموز، لقد أدهشني حجم اطلاعه على تلك الحرب، لكنه كان يسألني عن المزيد، عن التفاصيل، عن عمليات المقاومة بالأسماء والارقام والكيفية، يريدها رواية كاملة لا نقص فيها، ثم يصغي بأكثر مما يصغي أي سامع، كطفل يستمع الى امه وهي تروي له قصته المفضلة، وأرى حديثي يرتسم على ملامحه كمرآة عاكسة في تفاعل ملامحه مع الحديث، كنا قد وصلنا الى وادي الحجير حين انهيت حديثي عن ملحمة الجهاد في هذا الوادي، والتي سميت بمجزرة الدبابات.
وقف هناك في الوادي، مرّة ينظر إلى الطريق الضيق الالزامي الذي سلكته الدبابات، وتارة أخرى يرتفع ببصره إلى التلّتين المشرفتين على يمين الوادي ويساره، حيث كمن المجاهدون، توقّف هناك وكأنّه يستعيد مشاهد رآها بعيون جوارحه من تلك المعركة، ثم تدفق حبًّا وإبداعًا، بل تفجّر كما يتفجّر نبع في الربيع بعد شتاءٍ زاخرٍ بالمطر.
تحدّث عمّا يجول في ذهنه المزدحم، عن مشاريع لسياحة المقاومة هناك، وكأنّه يراها أمامه مشاريع تامّة التنفيذ، في وضوح رؤية، وقوة إبداع خلّاقة، يشرح وهو يشير بأصابعه أين سيكون المعرض الدائم، وأجزاءه المنتشرة في المكان، في معرض مشهديّ مركّب، ومجسّماتٍ دقيقة التفاصيل عن تلك المعارك البطوليّة. جعلني بقدرته الفذّة أراها بكلّ جمال وروعة التصميم الذي تحدّث عنه، حتّى إذا دخل السائح إلى هناك عاش أحداثها وكأنّ المعركة كانت أمامه بالصوت والصورة والمشاعر، علمتُ حقُّا حينها أنه رجلٌ مبدعٌ هذا المهندس الشغوف بالمقاومة والجهاد. بل كان يريد فوق ذلك أن يصنع بين التلّتين عربات نقل كهربائيةٍ أنيقةٍ وآمنةٍ تنقل السّياح ليكونوا هُم خط التّواصل بين المجاهدين في كلتا التلّتين.
لم يكن هناك حدود لقدرات هذا الرجل وحماسته، لم تقف أمامه سوى الامكانات المادية، لقد استعصى عليه التمويل بحساب الأولويّات. فترك لنا ذلك الحلم وديعة مغلّفة بحبّه الذي لا يضاهى.